القاهرة 01 مارس 2016 الساعة 04:32 م
بمناسبة الاشتباكات الدائرة الآن بين «سائقي التاكسي الأبيض»، وأصحاب سيارات الأجرة «أوبر» أنشر هذا الموضوع التاريخي، ليعرف أطراف الخلاف من خلاله،
أن سنة الحياة هي التغير، والتقدم، ولعلهم يتأملوا أيضا كيف تصرف «سعد باشا زغلول» زعيم الأمة المصرية في بدايات القرن العشرين، مع «عربجية الحناطير» حين اعترضوا على ظهور وانتشار سيارات التاكسي في القاهرة، وخافوا على أرزاقهم. وزمان. خلال عشرينات القرن العشرين، حين بدأت سيارات «التاكسي» بالانتشار في القاهرة، استشعر عربجية الحناطير خطراً داهماً يهدد أرزاقهم، وتداولوا الأمر بينهم، واتفقوا على الذهاب إلى زعيم الأمة «سعد زغلول»، لإعلان خوفهم على قوت أولادهم، ومطالبته بإيجاد حل لهذه المشكلة الخطيرة التي داهمتهم
كانت باكورة سيارات الأجرة ( بوبي تاكسي ) قد ظهرت في مصر بداية القرن العشرين،من ماركة «دي ديون بوتون» الفرنسية، ويملكها «جوزيف دي مارتينو»، وبلغت 8 سيارات في القاهرة عام 1907، وكان أول موقف لها في ميدان الأوبرا القديم، وأول جراج مكان سينما «ريفولي» الحالي في شارع 26 يوليو، ثم تزايدت أعداد التاكسي تدريجيا في القاهرة حتى بلغت 30 سيارة عام 1919، وكان يركبها الأغنياء للنزهة فقط
وكما زاحم الحنطور ــ في السابق ـــ عربات الكارو التي تجرها الحمير، وكانت هي وسيلة المواصلات، داهمتهما عربات شركة «سوارس»، لكن تآلفا ما حدث بين الوسائل الثلاث، لكن ظهور التاكسي المفاجئ، وانتشاره المتسارع، أرعبهم جميعا، خاصة أصحاب الحناطير الذين أبدوا استياء شديدا، لأن التاكسي تحديدا خطف زبائنهم الموسرين، وتدارسوا الأمر وقرروا عمل إضراب أمام بيت زعيم الأمة «باشا زغلول»
ويوم الخميس 7 فبراير سنة 1924، ـــ في مثل هذا الشهر قبل 94 عاماً ــ اتجه العربجية في «رتل ممتد» من الحناطير عبر شوارع القاهرة، صوب منزل الزعيم، وطوال الطريق لم يتوقفوا عن ضرب الهواء بالكرابيج، لتصدر «فرقعة جماعية» أقرب ما تكون لصوت طلقات الرصاص، وفردوا علم مصر الأخضر فوق ظهور خيولهم فأضفى على موكبهم مهابة مضاعفة، استرعت انتباه سكان القاهرة فأطلوا عليهم من نوافذهم وشرفاتهم، وتعقبهم المارة لاستجلاء حقيقة الأمر
وفي كتابه «من واحد لعشرة» وصف الراحل الكبير الأستاذ «مصطفى أمين» المشهد بقوله: «أضرب جميع الحوذية فى القاهرة، توقفت جميع عربات الحنطور، مشى الحوذية فى الشوارع يحملون كرابيجهم، كانوا يلوحون بها ويطرقعونها فى أثناء سيرهم فى المظاهرة، فيحدث صوتها فرقعة غريبة كطلقات المدفع الرشاش. اتجهوا إلى بيت الأمة يهتفون هتافات صاخبة، كانوا متنمرين غاضبين ساخطين، الشرر يتطاير من عيونهم، الغضب يملأ وجوههم، كانوا يهزون سياطهم فى أيديهم وكأنهم يهددون بأن يُلهبوا بها ظهر زعيم الأمة ورئيس الوزراء !!
يقول «مصطفى أمين» : وفي عهود سابقة كانت مثل هذه المظاهرة لا تستطيع أن تصل إلى بيت رئيس الوزراء. كان البوليس يحاصرها ويقبض على زعمائها. كان يسكت الهتافات بالهراوات الثقيلة تنهال على رؤوس الهاتفين. ولكننا الآن في عهد وزارة الشعب. والبيت الذي يقصدون هو بيتهم.. بيت الأمة.. ورئيس الوزراء الذي يقصدون هو الرجل الذي رفعوه إلى هذا المقعد، ومن حقهم أن ينتزعوه من هذا المقعد الكبير. ثم إن سعدا أباح للشعب حق التظاهر. ‘انه حق مقدس كحق الكلام وحق الانتخاب”. «وطلبوا أن يخرج لهم سعد. لم يتقدموا بهذا الطلب كرجاء وإنما توجهوا به كأمر يستوجب التنفيذ
وقال لهم عم آدم البواب أن سعد يتناول إفطاره، وصاحوا فى وجهه إننا جئنا دون أن نذوق لقمة، كيف يأكل سعد إفطاره ونحن سنموت من الجوع ؟»
ووفق صحيفة «البلاغ» الأسبوعية، غادر الزعيم المائدة قبل إكمال إفطاره، وأطل عليهم من البلكونة،والعجيب أنهم افتتحوا كلامهم إليه بالدعاء له : «شفاك الله، اللهم قوِّ زعيم الأمة»، ورد عليهم «أشكركم، إن قلبي معكم مادمتم متحدين»
واستمع بإهتمام إلى «خطباء الحوذية المتحمسين»، وكان يصيحون بأعلى صوتهم، يطالبونه بقانون يمنع السيارات من شوارع القاهرة، بعدما استحسن الناس سرعتها، وفضلوا صالونها المغلق على الحنطور المفتوح، وهو ما ساعد على انتشارها بشكل واسع، ومتزايد، مما هدَّد أقوات أولادهم، ودعموا وجيعة قطع الأرزاق هذه، بحُجّجِ إضافية عدَّدُوها على مسامع الباشا، أبرزها خطورة سرعة السيارات التي ستتسبب بموت الناس بسهولة، وأنها من صناعة المستعمر، وأُجرتها مرتفعة، لأن وقودها غال، ومستورد من إنجلترا التي تحتل مصر. أما الحنطور فآمن، وصناعة وطنية،وطعام الخيول هو الشعير المزروع بأيدي فلاحي مصر
وانتهز الزعيم هدوء أصواتهم، بعدما «فضفضوا» بما عندهم، وسألهم “لماذا لم تقولوا هذا الكلام للحكومات السابقة على وزارتي، والسيارات بدأت في عهودهم”، فأجابوه بصوت جماعي، وهم يلوحون بأيديهم، : «دي حكومات عيَّنها الإنجليز لمصلحتهم، لكن حكومتك فقد انتخبناها لمصلحتنا».
ولما كان الغضب بادياً في تصرفاتهم، وأقوالهم، استعان الزعيم بخبرته العميقة في التفاوض، وحنكته السياسية، وليمتص ثورتهم قال لهم بود كبير، بدَّد نبرات التحدي والعصبية البادية من تعبيراتهم، وبِلُغة يفهمونها جيدا قال : « أنا عربجي مثلكم، وأقود العربة كما تقودونها، والحكومة هى الحنطور، والشعب هو الراكب الوحيد، وواجبي أن أوصله إلى الاستقلال التام لمصر والسودان، والفارق الوحيد بيننا أنني لا أحمل كرباجا». فتهللوا لكلامه، وتبادلوا الضحك والابتسام، وهدأت ثورة غضبهم،حين سمعوا الرئيس الجليل للأمة، ورئيس حكومتها، يقول أنه «عربجي مثلهم»، ويشبه نفسه بهم، وأن عمله لا يختلف عن عملهم، وأنه يصرف شئون البلد، كما يسوسون هم خيولهم تماما.
وحين تأكد الزعيم أنهم هدأوا تماما، وأنه استحوذ على قلوبهم قال
« والآن سأتحدث إليكم كعربجى يتحدث مع زملائه، إن الزبون يريد أن يصل إلى الجهة التى يريدها بسرعة، كما تريد مصر أن أحقق لها الاستقلال بسرعة، وكل إبطاء أو تأخير ليس فى مصلحة الزبون، ونحن الآن فى عصر السرعة، والسيارة علامة التقدم، وفى أنحاء العالم كله الآلات تحل مكان الحنطور، ولا أستطيع كزعيم أن أسمح لأمتنا أن تتخلف، أو تمشى ببطء فى عصر السرعة !! أتقبلون أن تتقدم الأمم الأخرى ونتأخر ؟
إننى أثق في وطنيتكم، وأنكم تفضلون أن تسير بلادنا بسرعة السيارة، أفهم أن تفكروا فى مستقبلكم فهذا حقكم، أفهم أن تلزموا الحكومة بأن تنشئ مدرسة لتعليم قيادة السيارات بدلا من أن تطلبوا منعها، وأن تساعدكم على الالتحاق بها فى وقت فراغكم ! وتمكنكم من التدرب على الآلات الحديثة، وبذلك يتضاعف دخلكم ويتأمن مستقبلكم. إن واجبكم أن تطالبونى بإدخال الأجهزة الحديثة إلى بلادنا، إن الإنجليز يسعدهم أن نتخلف، وأن نتأخر وأن تسبقنا دول العالم، ونركب العربات الحنطور، ولن تقبلوا أن يقول التاريخ إن حُوذية مصر نادوا بأن تتأخر مصر عن بلاد العالم خاصة وأنا أعلم مقدار وطنيتكم وغيرتكم على بلادكم.
أعلم أنكم اشتركتم فى الثورة، وأعلم أنكم ضحيتم بقوتكم فى أحلك الأيام من أجل مصر وحريتها، وأعلم أنكم على استعداد أن تكرروا هذه التضحية من أجل تقدمها، فلا حرية مع التأخر، ولا استقلال مع التخلف، ماذا كنتم تقولون لو أن أصحاب العربات الكارو طلبوا منع عربات الحنطور وأصبحنا الشعب الوحيد فى العالم الذى لا ينتقل إلا فوق عربات كارو ؟!! وأنا لا أكلمكم كرئيس وزراء ولا كزعيم أمة ولكنى أتكلم كواحد منكم، يهمنى مستقبلكم، لأن مستقبلكم هو مستقبلى !! سوف أفعل ما تريدون !! إذا كنتم تريدون أن تتقدم مصر بسرعة العربة الحنطور فسأخضع لرأيكم.. وإذا أردتم أن نتقدم بسرعة السيارة وبسرعة الطيارة فسوف أفعل ما تأمرون به!
وصاح الحوذية بسرعة: الطيارة!
قال سعد: إذن اتفقنا!
وهتف الحوذية: يعيش سعد باشا!
وضحك سعد وقال: لا بل قولوا يعيش الأسطى سعد!
وهتف الحوذية وهم ينصرفون: يعيش الأسطى سعد!»
ويضيف «مصطفى أمين» : « وعاد سعد سعيدا إلى مائدة الطعام يستأنف تناول إفطاره، إنه لم يعط الحوذية شيئا، وأعطاهم فى الوقت نفسه كل شىء، لم يستجب لمطالبهم بمنع السيارات، لكنه أعطاهم أضعاف هذه المطالب، أعطاهم الشعور بالكرامة، الشعور بالأهمية، أمن لهم مستقبلهم، نزل إليهم ورفعهم إليه، منحهم إحساسا جديدا بالاحترام، حتى ذلك اليوم كانت كلمة «عربجى» هى إحدى كلمات السباب المتداولة وكان إذا أراد مصرى أن يصف كلاما بالحقارة والتفاهة والوقاحة قال إنه “كلام عربجية” لكنه لم يهزأ من طلبهم الساذج ولم يسخر منه ولم يحط من شانهم، وإنما رفع شأن هؤلاء العربجية الثائرين، جعلهم فى مقام المسئولية، جعلهم يتصورون إنه يترك لهم أن يختاروا بين مصلحتهم الشخصية ومصلحة الوطن، ولم يترك لهم خيارا غير أن يختاروا ما أراد لهم. وفي الوقت نفسه فتح أمامهم آفاق المستقبل. وبين لهم أن الطريق لرفع أجر العامل ليس هو منع المنافسة، وإنما هو التدرب على الآلة الحديثة، وهو الاشتراك في سباق التقدم بأسلحة التقدم.
وفي لقاء جمع «مصطفى وعلي أمين » بــ «سعد باشا»، سأله مصطفى: «ألم يخطر ببالك يا جدي ماذا كنت تفعل لو أن الحوذية اختاروا العربة الحنطور عندما جعلتهم حكماً في بقاء السيارة أو إلغائها؟»
ورد «سعد» وهو يضحك ويغلق عينيه من شدة الضحك، كما قال «أمين»: «لا.. لم يخطر على بالي هذا مطلقا»
وقال «علي»: «هل معنى ذلك أنك كنت واثقا من بلاغتك؟»، ورد «سعد»: «لا.. بل كنت واثقا من قوة هذا الشعب، من استعداده الدائم للتضحية من أجل الوطن، المهم أن تمنحه ثقتك وأن تشرح له القضية وعندئذ ستكسب القضية، إن شعبنا ذكى جدا وطيب جدا في الوقت نفسه، وطيبته تجعل البعض يتصور أنه من الممكن خداعه، فيذهلون عندما يجدون أن هذا الشعب الطيب فيه دهاء علمته له الأهوال التي مرت به، الشعوب التي تحملت الضغط والظلم والاستبداد، تكون عادة أكثر ذكاء وحرصا من الشعوب التي لم تذق طعم الطغيان، إن الضعيف يحتاج إلى دهاء للعيش مع الطاغية، لأنه يغلبه بدهائه أكثر مما يغلبه بقوته، وكان بعض الأوروبيين يعتقدون أن صبر شعبنا هو خضوع وذلة واستسلام وكنت دائما على ثقة من أن هذا الصبر هو ذكاء ودهاء، هوانتظار للفرصة الملائمة للانقضاض، وما حدث في ثورة 1919أكبر دليل على صدق نظريتي
الأهرام