القاهرة 08 فبراير 2016 الساعة 02:20 م
في حال نشوب خلافات ـ أو خناقات كما يسميها البعض ـ في الأوساط الشعبية، يتبادل أطراف الخلاف تعبيرات شهيرة، تعارفت عليها الجماعة الشعبية عبر قرون، وربما يعود بعضها إلى مصر القديمة، وتعود هذه التعبيرات إلى أصول تاريخية دينية، أو اجتماعية.
والطريف أن أغلب من يستخدمون هذه التعبيرات لا يعرفون معانيها، ولا تفسيراتها. وهى تسمى اختصارا «الردح» لدى الجماعة الشعبية، وتكون الغلبة عادة للسيدة الأقدر على حفظها واستخدامها، أو الأقدر على «فرش الملاية» كما يقول الاسكندرانية.
وربما كان التعبير الأكثر انتشارا واستخداما هو « يا دلعدي»، وله تفسيران، الأول أنه مكون من كلمتين، «ألدّْ» و «العِدا»،
ومعناهما معاً «يا ألدّْ العِدا»، أى يا أسوأ الخصوم، وتم إدغامهما فى كلمة عامية واحدة وهى «يا دلعدي».
والتفسير الثانى «يادا العدا»، أى «يا هذا العدو»، والمقصود بالعبارة فى كلا التفسيرين وصم الخصم بصفة العداء.
وأحيانا تُوجه هذه الجملة إلى صديق، فيكون المقصود بها الدعاء له، على النقيض من التفسيرين السابقين، كأن تقول سيدة من الجماعة الشعبية لقريب أو جار «روح يا دلعدي.. ربنا يكتب لك فى كل خطوة سلامة»، وهى أمنية لحمايته من «ألد أعدائه».
وكثيرا ما كنا نسمع من تقول «نعم نعم .. يا عُمر»، وغالبا تنطقها «عوووومر »، وهى من تعبيرات الاستنكار التى يعيدها البعض إلى عصر الدولة الفاطمية، ولاختلافات مذهبية، كان خطباء الجمعة ينتقدون شخصية الفاروق «عمر بن الخطاب» على المنابر، وينسبون إليه مواقف ما، ويتساءلون عنها بقولهم : « وأين كنت أنت ياعمر؟»، وينطّقون اسم عمر باسترخاء: «يا عوووماااار» وانتهت الدولة الفاطمية، واختفى المذهب الشيعى من مصر فى يد « صلاح الدين الأيوبي»، وتوارثت الأجيال هذه المقولة عبر قرون، من دون معرفة سببها، حتى انقطعت الصلة بين التعبير وأصله التاريخي.
وكثيرا ما يردد الناس إلى الآن « ابن الرفضي»، وهى أيضا سُبَّة مذهبية قديمةً، ربما تعود لزمن الدولة الأيوبية التى اشتد فيها العداء للشيعة، و «الرفضي» كلمة مشتقة من «الرافضة»، أحد أوصاف الشيعة، ويستخدمها العامة إلى الآن من دون تدقيق معناها. ويقول البعض «اقف عِوِج واتكلم عِدِل»، أى قف كما تريد، بميل، أو كيفما تشاء، لكن الكلام يجب أن يكون مستقيما بلا اعوجاج، ولا ميل، أى أن الاستقامة والاتساق فى السلوك، وليس فى ظاهر الجسد، أو طبيعة الوقفة، أى أن المضامين هى الأهم.
وفى الخناقات يقولون لبعضهم: «أجرسك وأبهدلك»، أى تهديد بفضح المستور وكشف الأسرار، خاصة لو كان الطرفان بينهما خفايا، واستأمنا بعضهما على خصوصياتهما، وأصل كلمة «التجريس» أن المحكوم بعقوبة فى العصر المملوكى كان يوضع «بالمقلوب على ظهر حمار»، ويطوفون به فى الأسواق والشوارع، وبجواره مناد يقرع جرساً، أو يدق على طبلة، وهو يعلن جريمة المُعاقب، وعقوبته على الملأ. أما «البهدلة» فهى العبث بهيئة الخصم وهندامه، لحد تمزيق ملابسه، والإطاحة بعمامته، بقصد «التهزيئ»، وافقاده احترام الناس.
وكذلك يمكن أن نسمع أحدهم يقول لغيره: «أطّلَّع ميّتينك»، وهى من المواقف الصعبة جدا على نفوس الناس، حيث تمثل تهديدا بإخراج أمواتهم من المقابر، وبعثرة بقاياهم وتمزيق أكفانهم، وهى من أشق الأمور على أهل أى ميت، وهى الشبيه الدنيوى لصعوبة ساعة الحساب فى الآخرة، و التعبير يعنى أن المتوعد يهدد خصمه بإهانة «ميّتينه» وإخراجهم من مراقدهم الآمنة.
وأيضا يتوعد المتعارك خصمه بقوله: « همشيك على العجين ما تلخبطوش »، والمقصود إجباره على الإلتزام بما يريده دون أن يحيد عنه، أو يغير أى توجه، أو يخرج على أى تحذير.
وهناك تعبير طريف يقول : « بطلوا ده واسمعوا ده»، وهو مناشدة لمن يشاهدون الخلاف، بأن يتركوا ما يشغلهم ويتفرغوا لسماع ما يقوله الخصم، ليشهدوا عليه.
وكانت السيدات فى المناطق الشعبية فى مصر يلفُّفن أجسادهن بملاءة سوداء عند الخروج من المنزل، وبسببها جاء تعبير «أفرش لك الملاية»، وكان يحدث أن تختلف إحداهن مع أخرى، فتفرش ملاءتها على الأرض وتجلس عليها، متوعدة خصمتها بالبقاء لأطول مدة ممكنة، بقصد التفرغ «للردح» دون أدنى استعجال، لترويع السيدة الخِصم.
وفى السياق نفسه، تقول إحداهن لغيرها «أخلى اللى ما يشترى يتفرج»، أى تقوم «الردَّاحة» بكيل الإهانات لخصمتها، حتى تجعلها «فُرجة للرايح والجاي» كبضاعة معروضة لمن يرغب بالشراء، ومن يكتفى بالفُرجة على السواء.
وربما كانت «شوباش» أقدم كلمة «ردح»، لأن أصولها تعود إلى عهود مصرية قديمة، العصر القبطي، وهى تنقسم إلى مقطعين، «شو» وهى بمعنى «منَّة»، والثانى «باش » بمعنى السعادة، ويربطها البعض بالتماثيل الصغيرة «الأوشابتي» التى توضع مع الأموات فى القبور، لتردد الأدعية للمتوفين، و «أوشابتي» أو «شوابتي»، أو «شواب» تعنى حرفيا فى اللغة المصرية القديمة «المُجيب»، والمقصود بـ «شوباش» هنا ترديد الكلمة خلف قائلها، كما تردد التماثيل الأدعية فى القبور، فحين يعلن أحدهم الحرب على خصمه، ويطلق الردح فإنه يطالب أنصاره بترديد ما يقوله لتوسيع الهجوم على الخصم. والطريف أن الكلمة حتى وقتنا هذا تستخدم فى الأفراح أكثر من الخناقات، والمقصود بها أن يردد معازيم الفرح وراء المنادى تحية لمن يدخل المكان، أو من يقدم النقوط للعريس.
وبعض الناس إذا أرادوا الحط من شأن شخص قالوا عنه «ابن المرا» وبالرغم من أن الجماعة الشعبية تخاطب المرأة باحترام، ويقولون لها «الست»، بل إنهم حين أرادوا أن يمنحوا الفنانة «أم كلثوم» مكانة غير مسبوقة، أسموها «الست» وباتت تُعرف بهذا اللقب فقط، لكنهم بالمقابل إذا أرادوا احتقار المرأة قالوا «المرا»، بدون الهمزة، ولا التاء المربوطة.
وتستخدم كلمة « المرا» هذه فى سب الرجل، إذا أرادوا تحقيره، فيقولون «ابن المرا»، أو «تربية مرا»، للانتقاص من رجولته، وتحقير أمّه فى الوقت نفسه.
وهذه التعبيرات بعضها لايزال موجودا، وبعضها اختفى، لكن كل تناولاتها وأصولها لا تخضع لتفسيرات علمية، بل هى كلها تخضع لتجليات المخيلة الشعبية، فى الاشتقاق، والاستخدام وحتى التفسير.
ويرى البعض أن "الردح" تطاول، وتجاوز، أو " قلة أدب"، لكن آخرون يرونه دفاع المستضعفين عن أنفسهم وفق ثقافتهم، ومستوى وعيهم، ومعطيات حياتهم.