بقلم عباس الطرابيلي
شارع قصر النيل – أشهر شوارع وسط القاهرة – يكاد يكون الشارع الوحيد الذي لم يتغير اسمه، لأنه فعلا شارع له تاريخ. وصفحة من صفحات تاريخ مصر، تعالوا نروي حكاية هذا الشارع أقصد نطالع صفحة من صفحات كتاب تاريخ مصر.
يعتبر القائد العظيم إبراهيم باشا – ابن محمد علي الكبير – أول من فكر في تعمير المنطقة الممتدة الآن من "كوبري أبو العلا" شمالا إلى ما بعد كوبري قصر النيل جنوبا، عندما أمر بتمهيد تلك الأرض وردمها وتسويتها، كجزء من تجميل الشاطئ الشرقي لنيل العاصمة.
وكجزء من اهتمام سعيد باشا رابع ولاة مصر من الأسرة العلوية بالجيش والبحرية، وكما أنشأ قلعة عسكرية في القناطر الخيرية، أنشأ ثكنات للجيش المصري في منطقة قصر النيل هذه. وكانت هذه بداية أكبر حركة تعمير في هذه المنطقة مما لفت الانتباه إلى المنطقة الواقعة غرب القاهرة وهي الأساس الذي تحرك عليه إسماعيل باشا.
وبعد أن تولى إسماعيل باشا حكم مصر، أمر بالتوسع في تعمير المنطقة الممتدة من شاطئ النيل عند ثكنات الجيش إلى باب اللوق، وكلف كبير مهندسي مصر علي باشا مبارك بتحويل تلك المنطقة إلى واجهة حضارية للعاصمة فاختار 617 فدانا للحي الجديد وكان بعضها مازال أراضي خربة تحتوي على كثبان من الأتربة وبرك للمياه وأرض سباخ، فخططها وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة أغلبها متقاطع على زوايا قائمة ودكت شوارعها وحاراتها بالحجر الدقشوم . ونظمت على جوانبها الأرصفة. ومدت فى أرضها أنابيب المياه وأقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها بغاز الاستصباح، فأصبحت كما قال على باشا مبارك " أبهج أخطاط القاهرة وأعمرها وسكنها الأمراء والأعيان".
وبعد الانتهاء من رصف الشوارع والأرصفة قام الخديوي إسماعيل بمنح الأرض للذين سوف يشيدون المباني بشرط ألا تقل تكلفة العمارة عن 2000 جنيه _ بهدف بناء عمارات كبيرة عصرية . وفى عام 1874 م بلغت المساحة التي شغلت بالمباني 257 فدانا احتلت شبكة الطرق منها 30% وشغلت المبانى 13% واحتلت الباقي حدائق شاسعة تمثل الاحتياطي للتوسع العمراني . وهكذا ظهرت شوارع : قصر النيل . سليمان باشا . قصر العيني . . وبلغ طول شارع قصر النيل مثلا 1250 مترا وشارع الفلكي 1260 مترا وشارع عماد الدين 1270 مترا.
وكجزء من خطة التعمير هذه كلف الخديوي إسماعيل شركة فيف ليل الفرنسية بإنشاء كوبرى معدنى لتسهيل الوصول إلي الجزيرة الواقعة على الضفة اليسرى للنيل وتم إنشاء الكوبري عام 1872 وتكلف 108 آلاف جنيه " فقط !!" وفى نفس العام أنشأت شركة إنجليزية كوبري البحر الأعمى "الجلاء حاليا" يوصل الجزيرة بالجيزة ليكمل هذا المحور المروري الهام . وتكلف الكوبري 40 ألف جنيه "يا بلاش".
وبعد أن كانت شبرا هى متنزه سكان العاصمة، وبعد إنشاء كوبرى قصر النيل _ الذى حمل اسم كوبري الخديوي إسماعيل _ تحول الناس إلى الكوبري الجديد وما يليه من قصور وحدائق وطرق ومناظر إلي منطقة النزهة الأول . وخف سير المركبات التي كانت تقطع شارع شبرا عصر كل يوم للنزهة! !
ثم أمر الخديوي إسماعيل بنقل المدرسة الحربية التى أنشأها سعيد باشا فى القناطر الخيرية إلى ثكنات قصر النيل لزيادة تعميرها .
وإذا كان الشارع الممتد من كوبري قصر النيل إلي باب اللوق قد حمل اسم "شارع الخديوي إسماعيل" فإنما كان ذلك بهدف ربط الثكنات والميدان الج ديد الذى حمل أيضا اسم إسماعيل بقصر عابدين الذى بناه الخديوي ونقل إليه مقر الحكم بعد أن ظلت مصر تحكم من القلعة قرونا عديدة . . وهو الشارع المعروف الآن باسم شارع التحرير قبل امتداده من كوبري الجلاء إلي الدقي ثم إلي بولاق الدكرور بعد أن يعبر منطقة المركز القومي للبحوث . . وحمل الشارع الثاني اسم سليمان باشا الفرنساوى الضابط الذى عمل بجيش بونابرت ثم أصبح رئيسا لأركان جيش مصر أيام محمد على باشا. . ثم شارع قصر النيل الممتد الآن من ميدان التحرير إلي شارع الجمهورية بعد أن يعبر ميدان سليمان باشا . .
"وقصر النيل" ليس مجرد شارع تم دكه بالحجر الدقشوم على يد كبير مهندسى مصر على باشا مبارك بتكليف من الخديوي إسماعيل خامس حكام مصر الحديثة . وليس هو مجرد ثكنات للجيش ومدرسة حربية . . ولكنه قطعة من تاريخ مصر. . هو ثكنات للجيش وكوبري وشارع وتخطيط عمراني . . وهو تاريخ سياسي! !
. . فمن الجانب العسكري تحولت ثكنات قصر النيل إلي مقر رسمي لقوات الجيش المصري . ولعبت دورا سياسيا خلال أحداث الثورة العرابية . خصوصا وأنها كانت على مرمى حجر من مقر الحكم الجديد فى قصر عابدين الذى أنشأه الخديوي إسماعيل . وغير بعيد عن شارع قصر العيني بكل ما فيه وحوله من مبان عامة كانت مقرا للنظارات "أى الوزارات" بل والمجلس النيابى منذ كان اسمه مجلس شورى القوانين، وغير بعيد عن القصور الملكية فى الجزيرة وجاردن سيتى والقصور التى أقيمت حول محور ميدان لاظ أوغلو.
. . ولأن استيلاء أى قوات غازية على قلعة المدينة يعتبر استيلاء على البلد كلها . . فإن قوات الاحتلال البريطاني عندما وصلت إلي القاهرة يوم 14 سبتمبر 1882 بعد هزيمة العرابيين فى معركة التل الكبير . بادرت إلي احتلال ثكنات الجيش المصري فى قصر النيل كرمز لاحتلالهم للقاهرة . . والمؤسف أن الخديوي توفيق استجاب لمطلب الإنجليز بحل الجيش المصري فأصدر مرسوما بذلك بعد خمسة أيام من احتلالهم للقاهرة، أى فى 19 سبتمبر 1882 من مخبئه. فى قصر رأس التين، بحل الجيش وتسريح الجنود. وجاء ذلك ردا على مقاومة الجيش لهم . وهكذا لم ينس الخديوي توفيق واقعة قصر النيل فى أول فبراير 1881 عندما تجمع الضباط وقدموا عريضة لرئيس النظار . . وهى المظاهرة العسكرية التي سبقت مظاهرة قصر عابدين فى 9 سبتمبر 1881 . وفيهما تبلورت أفكار الجبهة الوطنية العرابية ضد القصر وضد الأجانب.
وظلت ثكنات قصر النيل تحت الاحتلال البريطاني . . ثم مضى الزمان حتى جاء يوم 71 مارس 1947 عندما انسحبت منها القوات البريطانية لآخر مرة ووقف الملك فاروق يرفع علم مصر فوق ثكنات قصر النيل، وكان يرتدى بدلته العسكرية وبجواره محمود فهمي النقراشى رئيس وزراء مصر وكبار قادة الجيش المصري . . وكان هذا اليوم مشهودا لأنه كان يعنى جلاء الإنجليز عن القاهرة.
كلف الخديوي إسماعيل شركة فيف ليل الفرنسية بإنشاء الكوبرى المعدنى عام 1872 وتكلف 108 آلاف جنيه " فقط |
وعاد الجيش المصري إلي الثكنات التي أنشأها الوالي سعيد باشا . . وظلت ثكنات قصر النيل فى موقعها حتى تقرر إزالتها ونقل القوات المسلحة إلي منطقة العباسية فى نفس المعسكرات التي جلت عنها القوات البريطانية .
وتقرر هدم الثكنات لإنشاء واجهة غربية للقاهرة لتتحول هذه المنطقة التي كان يدنسها جنود الاحتلال إلي أراض أقيمت عليها مباني جامعة الدول العربية. وفندق هيلتون النيل ومبنى الاتحاد القومي الذي بنى فى الأصل ليكون مقرا لبلدية القاهرة ، ثم تحول إلي مقر للاتحاد الاشتراكي ثم إلي مقر للحزب الوطني الديمقراطي.
ومع عام 1882 تم رصف شارع قصر النيل بالحجر . . ثم بالأسفلت بعد أن أصبح أشهر شارع تجارى فى القاهرة يبدأ من عند المتحف المصري ليصل إلى ميدان سليمان باشا ثم يواصل طريقه إلي تقاطعه مع شارع إبراهيم "الجمهورية الآن" عند جامع الكيخيا .
وشهد هذا الشارع زحفا من كبار التجار فوجدنا فيه محلات اليهود مثل شالون وصيدناوى وداود عدس وبنزيون . كما وجدنا محال الصالون الأخضر وبيع المصنوعات المصرية وعمارة الإيموبيليا أشهر عمارات العاصمة . . ومقر البنك المركزى والبنك الأهلي . . وهكذا .
أما التمثال الذي كان مقررا إقامته للخديوي إسماعيل فوق القاعدة التي أقيمت فى ميدان الإسماعيلية "التحرير" فقد وصل إلي الإسكندرية من إيطاليا بعد ثلاثة أيام _ من قيام حركة 27 يوليو ولهذا لم يكتب للخديوي أن ينعم بتمثاله فى الحي الذي أنشأه : حي الإسماعيلية ! !
وإذا كان الشارع الممتد من كوبري قصر النيل إلى باب اللوق قد حمل اسم "شارع الخديوي إسماعيل" فإنما كان ذلك بهدف ربط الثكنات والميدان الجديد الذي حمل أيضا اسم إسماعيل بقصر عابدين الذى بناه الخديوى ونقل إليه مقر الحكم، بعد أن ظلت تحكم من القلعة قرونا عديدة منذ بناها الناصر صلاح الدين، وهو الشارع المعروف الآن باسم شارع التحرير قبل امتداده من كوبري الجلاء إلى الدقي. ثم يمتد إلى ما بعد المركز القومى للبحوث. وحمل الشارع الثانى اسم : شارع سليمان باشا "الفرنساوى" الضابط الذي خدم بجيش بونابرت ثم أصبح رئي