القاهرة 01 اغسطس 2015 الساعة 04:21 م
هل يمكن للأدب أنْ يُعيد صياغة الواقع الاجتماعى إبداعيًا ؟ خاصة إذا كان هذا الواقع يفرض لغة أحادية ، تحرص على إقصاء المختلف ، وتــُكرّس للأنا (الصواب المطلق) الذى يرى المختلف معه أنه ( الخطأ المطلق ) ؟ وهل يحق للمبدع أنْ يدخل إلى حقول الألغام المحظورة ، خاصة إذا كان انتماؤه للعقيدة التى يؤمن بها ، ولكنه يرفض التعصب الذى يمارسه غيره من المؤمنين بذات العقيدة ؟ تداعت فى ذهنى هذه الأسئلة بعد قراءتى للمجموعة القصصية (عيب إحنا فى كنيسة) للباحث والأديب روبير الفارس الذى كنتُ أعتقد أنه متخصص فى الدراسات الاجتماعية فقط ، فإذا به أيضًا يكتب أدبًا قصصيًا متميّزًا. والكتاب صادر عن دار ميريت للنشر2009 .
البطل فى قصة (نكت الملائكة) طبيب يهجر الطب ويدخل الدير. ورغم أنّ رئيس الدير كلفه بتقشير الثوم ، ورغم مبدأ الطاعة العمياء ، فإنّ كبرياءه ظلّ أصل وجوده. وكان استدعاء رئيس الدير له لإنقاذ سائحة جاءتْ فى زيارة للدير وهى على وشك الوضع ، المفجر الذى سيحسم اختياره . يقول لرئيس الدير : إننى طبيب باطنة. ثم كيف وأنا راهب أخدش نظرى بجسد امرأة عارية ؟ فيكون رد رئيس الدير : أنّ الريفيات الأميات يمارسن توليد الحامل ولم يتعلمن الطب فى الكليات. أما إذا كنتَ تخشى النظر إلى جسد المرأة فعليك أنْ تقلع عينيك . هذا هو الحل. وبعد أنْ يقوم الطبيب / الراهب بمهمة التوليد ، فإنه ينزع ملابس الرهبنة وتــُشرق ملامح وجه زميلته وفاء تــُنير وجدانه. وقال لنفسه : إنْ كانت قد تزوّجت فالبنات كثيرات ، ودفء الأطفال منتهى اللذة.
مفتاح فك الغموض الفنى فى قصة (خنق رقاب الملائكة) فى نهايتها ، البطل فى البداية يذهب إلى الكنيسة للصلاة . وهو يكتب الشعر الذى يراه (أبونا يوحنا) مخجلا . وأثناء الصلاة فإنّ عقله يذهب به إلى حبيبته التى تم اغتصابها وماتت أمام عينيه. القصة لا تهتم بذكر هوية المغتصبين ، وتــُركز على الحالة الوجودية للبطل الذى تطارده روح حبيبته القتيلة المغتصبة. وأنها هى ملاكه الحارس . ولكن هذا الملاك (فى ذهن البطل المضطرب نتيجة صدمة الاغتصاب والموت) يراه مربوطــًا فى عمود ، ثم يتحول الملاك إلى صورة حبيبته وهى تقف شبه عارية وجسدها يترقرق كالعسل الأبيض المذاب فى البخور. وفجأة يرى السياف ينزل من سيارة بى. إم. دبليو. ويُخرج سيفــًا ويأخذ فى ذبح الحمام . وعندما يرى الملائكة لا تفعل شيئــًا يهجم عليها ويخنقها. ويستمر عقله الباطنى فى الربط بين الدم النازف من حبيبته التى يراها فى عمود الكنيسة فى شكل ملاك ، وبين الدم النازف من الحمام المذبوح . وحتى بعد أنْ عاد إليه وعيه ، ورغم العلاج فى المستشـفى ، فإنه يقول للأب يوحنا أنّ حبيبته ظهرتْ له فى الكنيسة وهو يصلى ، فينفجر الأب قائلا (( الكنائس لا تظهر فيها غير العذراء مريم . متى تفهم هذا ؟
000
الحب ومحنة اختلاف الديانة
فى القصة الثانية من ( ثلاثية فرعونية ) يُعالج الكاتب مشكلة الصراع الأبدى بين العشاق الذين يُرفرف الحب فى سماء وجودهم ، ويُمزقه التعصب الناتج عن اختلاف الديانة. تبدأ القصة بظهور نجم أخناتون ( وهو الاسم الذى اتخذه لنفسه آمون / حتب الرابع 1372- 1354ق. م ابن آمون / حوتب الثالث وزوج نفرتيتى ) والذى كتب عنه علماء المصريات أنه اشتهر ككاهن ، أما كملك فكان نكبة على مصر. وعندما عاد المصريون إلى عبادة آلهتهم المتعددة ، بما فيها عبادة آمون ، أطلقوا على أخناتون ( مجرم أخيتاتون ) لأنه تخلى عن مقاومة الحيثيين أعداء مصر. وأنه ألغى التعددية (( ومحا الأساطير التى كانت تقول بأنّ النيل هو الإله أوزير الذى تم تجاهله فى كل الوثائق الأخناتونية )) وأنه كان يريد (( دينــًا عالميًا ، يحاول أنْ يحله محل القومية المصرية التى سبقته )) ( برستد- فجر الضمير- من ص 312- 336) الفتى العاشق فى القصة دخل أهله فى الدين الجديد ، والفتاة العاشقة يتمسك أهلها بعبادة آمون . ويقول الفتى لها : لماذا لا تــُغيرون عقيدتكم وينتهى الأمر؟ وعندما يدافع عن أخناتون تقول له : عليه اللعنة. لقد زرع الفرقة والتعصب . قبله كان كل من يشاء يعبد ما يشاء . فلماذا يريد أنْ يفرض إلهًا بالقوة علينا ؟ تمسّـك كل من الفتى والفتاة بعقيدته. وبعد عدة أيام من هذا اللقاء حرق أتباع آتون معبدًا لآمون أثناء الصلاة. وعندما علم الفتى بما حدث جرى إلى حطام المعبد . أخذ يُفتش بقلب متفحم بين الجثث المتناثرة . وجد ضفيرة حبيبته السنبلية وعليها حروف اسمه. هذه الضفيرة بدأ بها الكاتب قصته فكتب ((ضفائرها سنابل قمح فى عيونه للأبد بدعوات الأم المقدسة. تكون مخلصة كإيزيس وأنت حكيم كحورس . ويبعد عنكما كل ( عين ) ست بركة رع )) وهكذا قضى- ولا يزال- التعصب الدينى على الحب .
000
الحب والصراع بين جمال الروح وقبح الجسد
فى قصة ( الحرب مع مارى ) تنويعة أخرى للتعصب . الفتاة أميمة تهجر الدير بعد أنْ دخلته برغبتها . وتــُعذبها عيون الجيران الذين لم يغفروا لها هجر الدير بعد أنْ كانت ستصبح (( أمنا الراهبة )) ولكنها تقول إنّ (( حال الدير لم يُعجبنى )) كما يُعذبها جسدها ، فهى تصف شعرها بنبات الحلفا الشيطانى . وعينيها أضيق من حظها فى الحياة . وجسدها كليف النخل (( لم تجد الطبيعة أى رمز أو غصن أو ورق أنثوى تعطيه لى )) أما أنفها فأفطس وأكبر من (( حقدى على مارى )) فمن هى مارى ؟ إنها غريمتها الجميلة التى تزوّجها ابن خالتها وفضّلها عليها. تبدأ القصة بوصف الوحدة القاتلة التى تعيشها أميمة. وأنها حبيسة غرفتها ومنقطعة عن العالم الخارجى. يأتى ابن خالتها ( الذى غيّر اسمه من سامى إلى القس الأب يوسف) وكانت تحبه وتأمل فى الزواج منه ، جاء ليُخرجها من عزلتها ويحصل على اعترافها . فى هذا اللقاء تعترف أميمة لنفسها بأنّ مارى أجمل منها (( فشعرها نهر وعيناها خمر )) ولكن لماذا تركها ابن الخال وتزوّج مارى ؟ تقول لنفسها (( ما الذى جعلنى لا أصلح لك. هى تحمل مؤهلا عاليًا وأنا كذلك . ثقافتى الدينية أفضل منها . ولكنك أردتَ امرأة تتباهى بها وتليق فى الهيئة الاجتماعية كزوجة لكاهن )) لذلك فإنّ أميمة بعد تجربة الدير ترى نفسها (( لقد شعرتُ أنه ليس لى مكان على الأرض أو فى السماء . أردتُ أنْ أسكن فى نجمة وأحترق معها لعلّ نارها تطبخنى من جديد أنثى جميلة )) ولم يكن ابن خالها الذى هجرها إلى جمال الجسد السبب الوحيد فى تعميق مأساتها مع دمامة وجهها ، لأنّ أمها أيضًا ساهمت فى هذا الإحساس بقولها (( كل فوله مسوّسه ولها كيّال أعمى )) وتتعمق المأساة أكثر عندما تقول لابن خالها الذى جاء ليحصل على اعترافها أنها أحبته وأنه لمّح لها بهذا الحب ، فإنه يرد عليها بالرد الصاعق : ليس ذنبى . وهل هى جريمتى أنا ؟ ثم قال لها (( لقد تحوّلتُ إلى ( أب ) وهذا يعنى أنّ جميع البنات بمثابة بناتى فإسمعينى يا ابنتى )) فإنّ المونولوج الداخلى لهذه النفس المعذبة يتواصل (( هل أتمكن بهذه السهولة أنْ أنزعك من دمى وكيف لى أنْ أخرجك منه ؟ كيف لى أنْ أبتر الخلايا التى تسكنها وأحرق روحى )) وعندما يئس منها قال لها : عليك بالصلاة والصوم . فقالت لنفسها : الشياطين فقط هى التى تخرج بالصوم والصلاة وليس الحب . تــُريدنى أنْ أعترف يا أبى ؟ وتكون ذروة هذا الموقف الإنسانى لهذه النفس البائسة عندما تقول (( أنت يا أبى خطيئتى الكبرى . جعلتنى أكره ملامحى . سامحك الله))
أدان روبير الفارس التعصب الدينى فى هذه المجموعة القصصية البديعة ، فكنت رسالته أنّ الأحادية تقتل الحب بين البشر وأنّ الحياة لا تزدهر إلاّ بالتعددية.