القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 11:52 م
سيرة ذاتية
رغم أن الجو لم يكن حارًا، إلا أنه كان يشعر بالعرق يتصبب من جبينه، أما جلسته أمام المنضدة الصغيرة وفى مواجهة الحائط فقد عمقت إحساسه بالحصار. عاود النظر إلى سؤال ورقة الامتحان، كان السؤال المكون من كلمتين فقط يواجهه بتحدٍ: اكتب سيرتك. ما الذى يريده السائل بالضبط؟ أخذ يقلب فى ذهنه لاستخلاص ذكريات مُستعصية كأنما أصيب فجاءةً بفقدان الذاكرة. اكتب سيرتك. ما الذى يمكن أن يكتبه أو يقوله عنها؟ تذكر نصيحة وجهت له قبل دخول الامتحان: لا تُطل الإجابة فى نقطة واحدة، واختصر لتلم بالموضوع، ككل، ووجد نفسه يكتب: ولدت، تزوجت، أنجبت، لم يرضَ عن إجابته، أتكون تلك هى فقط الإجابة المطلوبة؟ عدل فى إجابته كاتبًا: دخلت الحضانة ثم المدرسة، تخرجت من الثانوية العامة إلى الجامعة، عمِلتُ فى شركة ترقيت حتى وصلت لمنصب مدير عام ثم رئيس مجلس إدارة، أحيلت إلى المعاش بعد ترقيتى وكيلاً للوزارة.
مرة أخرى لم يجد نفسه راضيًا عن إجابته، انتهز فرصة مرور مراقب اللجنة الذى يقال إنه هو نفسه واضع السؤال وسأله وهو يشير إلى ما كتب فى ورقة الإجابة: أهذه هى الإجابة المطلوبة من السؤال؟ رفع المراقب الورقة وقربها من عينيه ثم هز رأسه نافيًا: لا .. ليس هذا هو المطلوب من السؤال. غشيه إحباط سلّمه إلى توتر عصبى راح يتصاعد مع اقتراب عقارب الساعة إلى موعد انتهاء الامتحان، شعر كأنما يدًا ستأتى لتقبض روحه عندما يدق جرس الانتهاء، ومع ذلك فقد توارى الخوف قليلاً من شعوره لتتغلب عليه بدلاً منه رغبة عارمة فى التوصل لإجابة للسؤال قبل انتهاء موعد الامتحان.
تذكر أنه رأى فى لياليه الأخيرة فى المنام نفس الموقف الذى يواجهه الآن، وإلى هنا كان يمكن أن يطمئن إلى أن المسألة مجرد حلم يراه فى نومه، لولا أن شيئًا همس فى داخله بأن تكرار الحلم هو فى حد ذاته دليل على أنه يعكس حقيقةً ما، بل قد يكون تصور أو توهم أن الأمر مجرد حلم هو محاولة للهرب من الموقف العصيب الذى يواجهه، ورغم أنه متيقن تمامًا من أنه أنهى امتحان الليسانس من سنوات طويلة جدًا قبل أن يَبْيض شعره وينحى ظهره، إلا أنه وجد نفسه يواجه – لا يدرى كيف – امتحانًا آخر من نوع فريد لابد له من اجتيازه، ولم يعد يهم أن يكون هو نفسه الذى اختار بإرادته دخول هذا الامتحان أم فرضته الظروف عليه. حملق فى السؤال ربما للمرة العاشرة: اكتب سيرتك .. سيرته هى مسيرته مع أيام تأخذه لطرقٍ ودروبٍ فى حياته، تستقيم وتنحنى، تغشاها العواصف حينًا والضباب الحاجب للرؤية حينًا آخر، تضع فى طريقه أحجارًا يتعثر فيها مرة، ويسلُك خطاه بينها مرات، ولكنه فى كل الأحوال يظل يسعى ويسعى، سعى طموح دءوب بلا جدوى فى بعض الأحيان، وبلا هدف واضح من وراء الغاية المحسوسة فى الكثير من الأحيان الأخرى، هكذا كان يجد نفسه يلهث فى طريق يبدو ممتدًا بغير نهاية مشدودًا خلاله إلى صراعات وخصومات وانتصارات وهزائم ترفعه وتخفضه، ومعها يكاد يلمس فى كل مرة علامات بعينها تتراءى له على امتدادات الطريق ووقفات الخطى، وثمة إشارات مُوحيه تبرق لذهنه سرعان ما تختفى، وآيات توشك أن تتجلى وتكشف عن غطائها كى تفض مغاليق سؤال السيرة الغامض، أما العرق فهو يتصبب الآن على وجهه أكثر فأكثر، بينما تنتابه رعشة تجعل حركة القلم فى يده أكثر اضطرابًا وحيرة.. أيكون ذلك هو الفعل كابوسه المتكرر زائر لياليه الأخيرة، أم هى أعراض مرض الموت الذى يتخبط فى سكراته فيتوهم ويتخيل أشياءً عن الطرق والدروب ومسيرة أعوامه الماضية كلها؟ بل ولم لا تكون تلك – بدلاً من ذلك – هى صحوة الموت يتلقى خلالها آخر ومضة من إلهامات حياة تخبو، و.. ها هى المسيرة تمضى – فى هذه اللحظة – جلية لعينيه إلى مداها الأخير، طاوية فى أعطافها أيامه كلها وعلامات الطريق بأشباحه وصوره، ويدق جرس النهاية وهو لا يزال يتخبط فى حيرة مع آخر سؤال لآخر امتحان يجتازه، وفى لحظة تنداح الصورة كلها من أمامه، ويطل عليه فقط وجه المراقب واضع السؤال قادمًا مع دقة الجرس لينتزع منه ورقة الإجابة، وعندها لا يملك إلا أن يصيح فيه بآخر شحنة طاقة لديه وبكل شجاعة اليأس التى تتلبسه: بربك ما الذى قصدته بسؤالك الصعب الغريب هذا؟ ما المعنى من وراء كتابة سيرتى الذاتية؟. كان صوت الجرس قد خفت وأخذ فى التلاشى، وبدأت ستائر ظلام تنسدل على المكان عندما وصل إلى سمعه الرد واضحًا جليًا: المعنى كان موجودًا عندك أنت وحدك، لكنك لم تبحث عنه!