القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 11:48 م
دائرة الحب
رغم ملابسه الفقيرة وبلوزات والدته المشجرة ذات الألوان المبهجة التى كان يرتديها باعتبار أنها شبابية دون أن يرى "بنس الصدر" التى كانت مدعاة للتندر والسخرية من كل زميلاتها، لم يكن الفقر مفتاح شخصيته، بل الكبرياء والاعتزاز بالنفس.
ذكاؤه وتفوقه الدراسى جعل الجميع يلتفون حوله ويسألونه فى الدروس التى تصعب عليهم، ولجمال وروعة خطه كانوا يطلبون منه أن يكتب لهم أسماءهم على الكراسات.
والده الأستاذ "نبيل" يعمل مدرسًا بالمدرسة نفسها إلا أن مرتب مدرس ابتدائى لا يكفى متطلبات أسرة مكونة من ستة أفراد الأبوين وأربعة أبناء، خاصة أنه كان يؤمن برسالة التدريس ويرفض الدروس الخصوصية.
نمت بينهما صداقة عميقة، وهذا لا يحدث فى المجتمعات الريفية أن تقام صداقة بين ولد وبنت خاصة فى مثل هذه السن الصغيرة.
فالمكان مدرسة ابتدائى مشتركة تقع فى قرية صغيرة بمحافظة الغربية، والزمان ثمانينيات القرن العشرين.
جمع بينهما التفوق الدراسى والهوايات الفنية والرياضية والمسابقات التعليمية، التى جعلتهما يتنقلان معًا بين مدراس المديرية التعليمية والمحافظة، هذا بجانب المجموعات التعليمية التى يحضرونها معًا.
كانت تلاحظ نظرات وهمسات زميلاتها خاصة وهن يسخرن من ملابسه، وتلاحظ تمتمات لا تفهمها، إلى أن جاء يوم دخلت "لمياء" الفصل فوجدت هذه العبارة مكتوبة على السبورة "أحمد يحب لمياء" على الفور توجهت لمياء لمكتب ناظرة المدرسة وقصت عليها ما حدث والعبارة التى وجدتها مكتوبة على السبورة، وبدلاً من أن تأمر الناظرة بالتحقيق ومعرفة من قام بكتابة هذه العبارة ومعاقبته طلبت منها أن تمتنع عن التعامل معه نهائيًا، فكانت صدمة كبرى بمثابة طعنة كبيرة جعلتها تفقد الثقة فى كل من حولها، والكفر بفكرة العدل التى كانت تؤمن بها، فهذه الناظرة مثلها الأعلى فى كل شىء، تقف مع الظالم ضد المظلوم، ومما لا شك فيه أنها بذلك تؤكد على صحة هذه العبارة بموقفها السلبى هذا، رغم أنها قالت لها: كلنا نعرفك جيدًا ونعرف أخلاقك وتفوقك، وكذلك نعرف "أحمد"، لكن ما أقوله لك هو الصواب.
كان هذا الموقف نقطة تحول كبيرة فى حياة "لمياء" التى عُرفت بخفة دمها وشقاوتها ومشاركتها فى جميع الأنشطة، فاعتزلت كل شىء واكتفت بمذاكرة دروسها فحسب مع تنفيذ تعليمات الناظرة بالابتعاد عن "أحمد"
أقامت المدرسة احتفالاً كبيرًا بمناسبة استرداد سيناء يوم 25 أبريل 1982، ولأول مرة تعتذر لمياء عن المشاركة فى احتفال تقيمه المدرسة، فشعورها بالظلم جعلها تفقد حيويتها ونشاطها بل وتراجع مستواها الدراسى، بعد أن فقدت أكثر الناس قربًا إلى نفسها.
الأستاذ "نبيل" يعشق تراب مصر إلى حد لا يمكن لأحد أن يتخيله، ويترجم هذا العشق بتفانيه فى توصيل رسالته المقدسة لتلاميذه، فلم يكتفِ بتلقينهم المواد الدراسية فحسب، بل ينقل لهم هذا العشق، واعتبر عودة سيناء عيدًا خاصًا به، وليس عيدًا وطنيًا فحسب، حكى لتلاميذه عن أهمية موقع سيناء الإستراتيجى على مر التاريخ، وفطنة محمد على له منذ عام 1810 حين أنشأ محافظة العريش، وحرصه على حمايتها من الخارج فوضع تحت تصرف المحافظ قوة عسكرية لحماية حدود مصر الشرقية، وقوة نظامية لحماية الأمن الداخلى، كما أنشأ نقطة جمركية ونقطة للحجر الصحي.
كما قص عليهم قصة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956الذى تكون من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل واستيلاء إسرائيل على سيناء، وقرار مجلس الأمن برد جميع الأراضى المحتلة وعدم شرعية الهجوم على مصر، لكن إسرائيل قامت يوم 5 يونيه 1967 بشن هجوم على مصر وسوريا والأردن، واحتلت سيناء والجولان والضفة الغربية للأردن.
حدثهم أيضًا عن عظمة الجيش المصرى الذى استطاع أن يعبر هذه الأزمة رغم فداحة الخسارة بصموده أمام القوات الإسرائيلية ودخوله حرب الاستنزاف، ونجاحه فى أعظم حرب شهدها التاريخ وانتصاره فى 6 أكتوبر 1973.
رغم صغر سن "لمياء" إلا أن استرداد سيناء كان بمثابة درس جديد تتعلمه من الحياة، فمهما طال عمر الظلم لابد أن ينتهى، استعادت نشاطها وحيوتها، فى تحصيل المواد الدراسية فحسب لأنها أصرت على الاستمرار فى تفوقها، لكن مشاركتها فى الأنشطة يعنى تعاملها مع أحمد، خاصة بعدما تأكدت أن مشاعرها تجاهه لم تعد محايدة.
جاءت الدعوة لتعمير سيناء بمثابة طوق النجاة الذى أُلقى للأستاذ "نبيل" فكان العرض مغرٍ من جميع الجهات حيث سيتم توفير مسكن له ويتقاضى أجر أفضل مما يتقاضاه لمساهمته فى هذا المشروع الوطنى، كما أنه كان يرفض إلحاح زوجته الدائم عليه بالسفر إلى الخارج، فوجد فى سيناء تحقيقًا لرغبة زوجته وزيادة فى دخله الذى سيضمن له ولأسرته عيش كريم، على أرض الوطن.
صدمة أخرى تعرضت لها "لمياء" حين علمت بأن الأستاذ "نبيل" الذى يمثل لها القدوة والمثل الأعلى والأب الذى عوضها الله به بعد وفاة والدها، سيسافر إلى سيناء وغالبًا سيصحب معه كل أفراد أسرته، فتحرم حتى من رؤية أحمد عن بعد.
ظلت "لمياء" قلقة حتى علمت أن الأستاذ "نبيل" سيذهب بمفرده أولاً ثم يلحق به باقى أفراد الأسرة فى العام المقبل.
انتهى العام الدراسى وعاد الأستاذ "نبيل" لقضاء الإجازة الصيفية مع أولاده ويبدأ فى إجراءات نقلهم إلى سيناء لكن زوجته رفضت، وأصرت أن تبقى وأولادها بجوار عائلتها وأن يحضر هو فى الإجازات، لم يفلح معها التهديد بالزواج من أخرى، وتزوج بالفعل الأستاذ نبيل من امرأة بدوية من قبيلة من أكبر قبائل سيناء، وهى سيدة عاقر أحبت أولاده وزوجته فتذهب فى الإجازات محملة لهم بالهدايا، وتعجب الجميع لهذه العلاقة الغربية التى نشأت بينها وبين زوجته الأولى.
بعد سنوات التقيا أحمد ولمياء فى الجامعة، لم تتغير ملامحهما، وأفصحت عيونهما عن مشاعر كل منهما تجاه الآخر، قصة الحب التى نشأت بينهما دون أن يعلما وهما طفلان فى المرحلة الابتدائية، الآن يباركها الأهل، وكانت هدية الأستاذ "نبيل" شبكة قيمة للعروسين، فبعد زواجه لم يعد الأستاذ نبيل ضيفًا على سيناء بل واحدًا من أبنائها، وبمساعدة زوجته الجديدة استطاع أن يمتلك مشروعًا حلم به سنوات طويلة، مزرعة بها كل خيرات الأرض من خضار وفاكهة وعسل ....
بعد التخرج قرر "أحمد" أن يكمل مشوار أبيه الذى بدأه فى سيناء، بكل عزم وإصرار قررت "لمياء" أن ترافقه الرحلة من البداية حتى لا تقع فى الخطأ الذى وقعت فيه حماتها، التى صرحت لها سرًا بشعورها بالندم.