القاهرة 24 يوليو 2015 الساعة 03:19 ص
الثورة التي نحتفل بذكراها كل عام ( ثورة ناصر ) لم تستمر أكثر من 18 عاما، وبعدها حدثت تحويلة كبرى، وباتجاهات أخرى تماما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ولم يتبق من ثورة يوليو 1952 داخل مصر، إلآ الاحتفال بموعدها فقط .. وما كان لم يعد كما كان !! وكل ما قامت من أجله الثورة .. كل توجهاتها وبرامجها .. كل ما أعلنته من مبادئ وثوابت .. وحتى حسابات المستقبل وغاياته .. قد إنحرف 180 درجة !! ولم تعد هناك شواهد على منجزاتها فوق أرض مصر سوى السد العالي، وتأميم قناة السويس، بعد أن تمت تصفية وبيع قواعد وقلاع ومنشآت بدواعي الخصخصة، ولو كانت هناك بقية من شطحات خيال مجنون لتم إعادة تحويل مجرى نهر النيل بعيدا عن السد العالي .. ولكنهم إكتفوا بتشويه الحقائق، ومنذ الساعات الأولى من حكم " أنور السادات " بعد رحيل الرجل الكبير، وتواصلت الحملة ـ إلا قليلا ـ في عهد الرئيس الأسبق مبارك !!
وإذا كانت الثورة ـ أية ثورة في العالم ـ هي استجابة لاتجاه التاريخ وضروراته وتدفقه المتحرك دوما .. وإذا كانت الثورة ـ وفقا لمبادئ العلوم السياسية ـ هي تغيير شامل وعام في واجهة الدولة سياسيا واقتصاديا وادتماعيا، وهذا ما حدث بالفعل على أرض مصر بعد 23 يوليو، فإن المساحة الزمنية للثورة لم تتجاوز 18 عاما، وبدأت النهاية مع رحيل قائد الثورة في الثامن والعشرين من سبتمبر1970، وحين بدأت الحملة الشرسة على الرجل ومنجزات الثورة .. وقد يقال أنها عادة فرعونية حين لجأ بعض ملوك مصر القديمة بالعبث في الشواهد والمعابد بالشطب و "الكشط " أو على الأقل ـ وفي أحسن الأحوال ـ ترحيل المتنجزات إلى حساب الفرعون الجديد!!
كانت بداية الثورة استجابة لضرورات وأحكام الواقع، حين اختل التوازن الاجتماعي في مصر، وتصدع البنيان الاجتماعي والاقتصادي في ظل أجواء من الفساد السياسي، وحاصرت الشعب المصري ثلاثية الفقر والجهل والمرض، ومع نهب حقوق "الحفاة" من سكان القرى والنجوع والأقاليم النائية، وترهلت مؤسسات الدولة تحت سطوة مصالح أصحاب الثروة والنفوذ، ومع تحكم سلطات الاحتلال البريطاني في موارد ومصير البلاد التي ظلت محتفظة باستقلالها غير الكامل عن بريطانيا، وانتشرت الفوضى .. وكانت الأوضاع العامة للمنطقة العربية تتحكم فيها وفي شعوبها سطوة إمبراطوريتين كبيرتين : بريطانيا العظمى وفرنسا، ووراءهما الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد وتدعم وعند اللزوم تتقدم .
وفي هذا الإطار الحديدي من سطوة وسلطان قوى السيطرة الأجنبية، ومعاناة تردي وتدهور الأوضاع الداخلية، قاد البكباشي (المقدم) جمال عبد الناصر حسين مجموعة من شباب الضباط الأحرار، وهم يدركون حجم المخاطر المحيطة بهم، وحجم وسطوة الأطراف المؤثرة في ذلك الوقت (114 ضابطا في منتصف العشرينيات من العمر، أكبرهم سنا عبد الناصر 34 عاما) حاملين رؤوسهم على أكفهم وهم يسعون إلى كسر قيود الإستعمار والإستغلال والتبعية والوصاية والفقر والجهل والتخلف، وردّ الإعتبار إلى الشخصية المصرية، وأن تستعيد مصر حريتها وحركتها ومكانتها، مع تأسيس الجمهورية الأولى في التاريخ المصري، ليمتد التأثير الفاعل والنافذ إلى ثلاث قارات، أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.
وكانت تجربة عبد الناصر أمام مجموعة اختيارات اجتماعية وسياسية ودولية، في الداخل كان الاختيار طريقا عربيا إلى نوع من الاشتراكية، وهو الخيار المتاح لبلد كان متوسط الدخل القومي للفرد فيه حوالي 47 جنيها في بداية التجربىة ـ وإذا تذكرنا التفاوتات البشعة في توزيع الدخول وقتها، أدركنا حجم المشكلة الاجتماعية بعد المشكلة الاقتصادية ـ وترتب على ذلك خط معين في التنمية الشاملة، استطاع على سبيل المثال فيما بين سنة 1956 إلى سنة 1966 أن يعطي زيادة سنوية في الدخل القومي بمعدل 6,7 في المائة، طبقا لتقرير البنك الدولي بتاريخ 5 يناير 1967، وهي نسبة لم يكن لها مثيل في العالم النامي كله.
وإذا وضعنا هذه الزيادة أمام مشهد التحولات الاجتماعية الضخمة التي عايشتها مصر في الستينيات، لرأينا صورة عظيمة لشعب يبني حياته من جديد بعمله وجهده، خاصة إذا ذكرنا أنه في تلك الظروف لم تكن مصر تطلب من أمتها العربية عونا، ولا كانت تلك الأمة ـ بصراحة ـ قادرة على مد يد العون إلى مصر، بل ربما كان العكس هو الصحيح .. ولقد امتزجت التجربة الداخلية المصرية مع مطالب الأمن العربي الشامل، وتمكنت من بناء توازن إقليمي وعالمي استطاع تمكين مصر من قيادة قوى الدفاع عن المصير العربي .
والشاهد أن للأمة العربية تاريخا حديثا يمكن كتابته وتسجيله وتوثيقه مع بداية ثورة 23 يوليو 1952حين بدأت الآمال تنمو نموا طبيعيا، وحين بدأت العقول العربية في اكتشاف مجموعة أهداف مشتركة وآمال وتطلعات تحيط بمشروع المستقبل .
وبعد رحيل عبد الناصر .. كان للفراغ السياسي دورا آخر !!
وهكذا ـ كما يقولون ـ تمهيد الأقدار .. للأقدار .. وتمهد الأحداث .. للأحداث !!