القاهرة 22 يونيو 2015 الساعة 01:45 م
يجوب " المسحراتى " الحارات والأزقة ممسكاً بطبلة ليوقظ الناس للسحور ، لكنه هنا لا يقف عند حدود الزمان والمكان ، بل ينتقل بنا من الاستيقاظ إلى اليقظة ، اليقظة بمعناها العميق حين تأخذنا عبر لغة بسيطة ، لكنها البساطة الآسرة ، وما أصدقها حين تقرع طبولها لنقرأ عن انتحار التاريخ ، ووفاة المثل العليا ، ومكافحة الأمية السياسية ، إضافة إلى معانى أخرى لا يستطيع أن يوقظها بداخلنا إلا هذا النوع من المسحرين الجادين الذين يعون .. فى زمن يمتدح الجهل .. الدور الذى يجب أن يلعبه " المسحراتى " ومن أجل هذا أختار الكاتب " محمد خطاب " كلمة " المسحراتى " عنوان لهذا الكتاب الذى طبعته دار الهلال عام 1955 ثم أعادت طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة ، حيث جمع فيه العديد من المقالات التى حاول
فيها إيقاظ المواطنين أو على الأصح إعدادهم للندماج فى اليقظة الكبرى حيث نراه يقول فى مقدمة كتابه : " لم يكن فى مقدورى أن أقف موقفاً سلبياً أشاهد من أعماقه الخائرة تلك العهود السود التى سبقت الثورة عندما كانت تنزل بالبلاد شتى الكوارث .. فاندفعت ثائراً على مجلس الشيوخ .. م
حاضراً فى النوادى والمجتمعات .. كاتباً فى جميع الصحف والمجلات " .
وكانت الحرب العالمية الثانية مشبوبة فى هذه الاثناء وعندما كان الكاتب يطالع تفاصيل المذابح الرهيبة التى كانت تخلفها الحرب فى أعقابها خطر بباله قول أحد قدماء الفلاسفة عندما صاح فى الناس قائلاً : " لماذا لا نعيش جميعاً فى سلام وانسجام .. ونحن جميعاً رفاق سفر فى سيار واحد .. إذا رفعنا أبصارنا إلى أعل .. وقعت على نجوم واحدة فى سماء واحدة تظللنا جميعاً " وظل هذا السؤال يشتعل فى قلب الكاتب إلى أن اتضح له أن العقل الإنسانى هو السبب فى كل ما يعانيه البشر من شرور وويلات ، فقد تعود الناس أن يؤمنوا بأوضاع انحدرت إليهم من أسلافهم فنتج عن ذلك أنهم لم يحاولوا أن يفكروا فى غيرها مشيراً إلى أن كل هذا يرجع إلى سبب بسيط وهو : " أن الانقياد أسهل بكثير من التفكير " ، ونظراً لضيق المساحة المخصصة لنا وغزارة الأفكار والمقالات التى يحتويها هذا الكتاب نقدم لقارئنا العزيز بعض من هذه المقالات التى إذا تباينت فى مواضيعها إلا أنها تجتمع على هدف واحد ينشده الكاتب وهو أن يعم المحبة والخير والسلام والسعادة جميع سكان الأرض .
طبل أكبر حجماً وأشد دوياً
ويبدأ الكاتب كتابه بمقالة " المسحراتى " والتى يشير فيها إلى أنه ذهب إلى مصيف رأس البر ليستمتع بالهدوء والراحة والبعد عن كل ما يثير العقل والنفس معاً ، ولكن مع حلول شهر رمضان لم يهنأ له الحال بسبب المسحراتى الذى بدأ يجوب بين العشش وهو يقرع طبلته لإيقاظ المصطافين للسحور، وبالرغم من اعترافه بالخدمة الجليلة التى يقوم بها المسحراتى إلا أنه أحس بغضب جم يعتريه من هذا الشخص الذى يوقظه عندما يبدأ النوم يداعب أجفانه ، وهو الذى يعانى من أرق منذ فترة طويلة مع انهيار فى بعض أجهزة الجسم ، ولكن عندما رأى وجهه الذى يبدو على ملامحه دلائل الطيبة واطمئنان النفس ، تسرب دخان غضبه ودعاه إلى الجلوس معه وبعد حديث طويل دار بينهم نظر الكاتب إلى الطبل الصغيرقائلاً : " أليس لديك طبل أكبر حجماً وأشد دوياً ؟ " فأجاب المسحراتى : " إن هذا الطبل كفيل بايقاظ سكان أكبر عشة فى رأس البر " فإجابة الكاتب وقد مر بخياله جميع الأوضاع المتدهورة التى كانت تسود مصر حينئذ قائلاً : " إنى لا أريد منك إيقاظ سكان عشة .. ولكنى أطلب منك إذا استطعت أن توقظ أمة بأسرها " .
انتحار التاريخ
ويتأسف الكاتب فى مقالة " انتحار التاريخ " على أن التاريخ أصيب فى القرون الأخيرة بأزمة فى الضمير نشأت عندما شعر الناس بالريبة فى أمره وذلك بعد أن عاش سنين موضع ثقتهم واحترامهم ، وبالرغم من أن التاريخ عاصر النضال المستديم فى الحياة بين القديم والجديد ، بين الذى يحتضر والذى يولد ، إلا أنه شعر بالملل مما جعله يفكر فى أن يلهو قليلاً ليعالج ما حل بنفسه من ضجر، فأعلن خلال الدهور أنه أفرد كتاباً ليحفظ فيه أسماء العظماء من البشر ، فتهافت الكثير لكتابة أسمائهم وكان فى مقدمتهم جنكيزخان ، الإسكندر ، هتلر ، وموسيلينى ، حيث قدم كل منهم مؤهلات ترشيحة للعظمة والخلود والتى لم تختلف كثيراً إلا فى عدد الأرواح البشرية التى أزههقها المرشح للمجد على مذبح البطولة ، وبعد ذلك أجال التاريخ بصره فى وثائقه المكدسة ومستنداته المبعثرة فلم يجد أثراً لأى مخترع فغضب وجمع أعوانه وبعد بحث دقيق اتضح له أن كل ما ينفع الناس هو وليد جهود كثير من الأفراد ليعم الخير الجنس البشرى بأجمعه ، وعندما وجد التاريخ المذابح المقامة فى الحرب العالمية الثانية ندم وعرف أنه كان مخطئاً فى كثير مما قرر وسجل ، فأقدم على الانتحار إلا أن معاونه أوضح له أن الأمل يطغى بعد إعلان ميثاق الاطلنطى العظيم وتصريح أمريكا بضمان الحريات الأربع فى العالم ، وهذا بالطبع خير للإنساينة ولكن التاريخ أعرب له أن هذا خداع وإذا حدث فإنه سيلقى بنفسه ليموت لعل البشر يتعظون ، وهنا سأله معاونه قائلاً : " ومن يكتب قصة البشرية ؟ " فتنهد التاريج مجيباً : " إن بشر لهم مثل هذه العقلية لا يستحقون أن يكون لهم تاريخ " .
خواطر ذرية
ويؤمن الكاتب فى مقاله " خواطر ذرية " باتحاد كل عناصرهذه الأرض لإسعاد الإنسان إذا أراد أو لفنائه إذا شاء ، وأن الحرب والكراهية والتعصب جميعها من الأوضاع المدمرة التى ورثناها عن أجدادنا المتوحشين ، وإنه قد آن للبشر أن يستبدلوا بها أوضاعاً مثمرة كالسلام والتعاون والتسامح مادمنا جميعاً رفاق سفر فى سيار واحد ، موضحاً أن الحرب ليست داء فى حد ذاتها ، بل هى من أعراض مرض غير ظاهر وهو " الجهل الاجتماعى " ، مشيراً إلى أن الطبيعة ألقت بسر من أعمق أسرارها وهو تفجير الذرة ، فإن ظل الناس على غبائهم ورغبتهم فى استعمار الأمم واستعباد الأفراد فإن هذه القوة الجديدة ستكون سلاحاً جديداً لانتحار العالم ، وعندئذ يبرهن الإنسان أنه أحمق مخلوقات الله جميعاً ، أما إذا إتجه البشر فى استعمالهم لهذه القوة الجبارة إلى زيادة الانتاج وتحقيق التعاون والمساواة ، فإنهم سوف يحققون للبشرية حتماً سعادة ورخاء وسلماً مستديماً ، فمصير العالم بعد اكتشاف القنابل الذرية لن يتقرر بوجودها ولكن بالطريقة التى يستخدمها الناس .
يا دنيا يا غرامى
ويرى الكاتب فى مقاله " يادنيا ياغرامى " أن كل إنسان فيلسوف إلى حد ما ، لأن لا يوجد إنسان عاش حياته دون أن يشعر ولو لمرة واحدة أنه يحيا فى ظل علامة استفهام هائلة ، فكثيراً ما يسائل نفسه عن الروح والحياة والدنيا ، وكيف بدأت هذه الأسرار ؟ وإلى أين المنتهى ؟ ! ثم لا يلبث بعد أن انهكه التفكير إلى اللجوء إلى سند قوى من التعاليم الدينية أو النظريات العلمية أو إليهما معاً ، فتطمئن نفسه ويهدأ باله ، موضحاً أن الحياة تبدو ثقيلة على بعض الناس فى أوقات القسوة والحرمان ثم تعود محببة لديهم عندما تصفو فتحقق لهم شيئاً من أسباب السعادة ، فيظل الناس فيها حيارى من أمرهم متذكرين من قال : " إن الدنيا لا تعدو أن تكون عدواً فى ثياب صديق " ، مؤكداً على أن العالم الآن ملئ بالآلام والشرور والقسوة ، ونحن لا نملك أن نمنع هذه الآلام ، ولا أن نخفف من هذه القسوة ولكن فى مقدورنا أن نروض أنفسنا على النظر إليها نظرة فلسفية ، لأن المصيبة الواحدة قد تصيب شخصين فتصعق أحدهما ، ولا تترك فى حياة المتفلسف غير آثار محتملة ، فهكذا تبدو الحياة لا كما هى ولكن من خلال النظرة التى نرمقها بها .
مكافحة الأمية السياسية
ويتحدث الكاتب فى مقاله " مكافحة الأمية السياسية " عن السياسة التى تعد الأداة الأولى والأخيرة التى تؤثر فى حياة الناس ، فهى التى تحدد مقدار ما ينعمون به من هناء أو ما يقاسونه من شقاء ، لذلك فهم يتحدثون عنها تبعاً لأهوائهم الشخصية ولكن أغلب الظن أن هؤلاء الناس ينظرون إلي الأمور نظرة بلهاء ناشئة عن تواكل واستكانة وجهل مطبق بالحياة ، والواقع أن تعريف السياسة تعريفاً مستنيراً ليس بالأمر الهين فى وسط عاش دهراً لا يعرف عن السياسة سوى أنها جدل عقيم ، وخطب رنانة وجهود تبذل للوصول إلى مقاعد الحكم ، وهذه الأساليب لا صلة لها بالسياسة ، أما الأبجدية السياسية فتنص على أنه لا يمكن تصور الحكم إلا فى إطار من الزمن الذى يقوم فيه هذا الحكم ، ومنطق الزمن الآن يحتم العمل على إسعاد الأفراد فى نطاق الدولة وبوساطتها حتى تنشأ دولة قوية يدعمها أفراد أقوياء ، لذلك من واجب الحكومات أن تهدف إلى أن يعمل كل فرد عملاً منتجاً ليأكل هو وعائلته من أجره ، وأن تمحو عن رعاياها وصمة الجهل ، وأن تعالجهم عند المرض ، وأن ترتب لهم معاشاً عندما يعجزون ، وأن تكفل لعائلاتهم معاشاً بعد وفاتهم ، فكل أمة فى هذا العصر لا تجعل هذه الأغراض الأولية هدفاً سياسياً لها ، هى أمة تعيش فى الماضى .
على هامش الإنسان
ينتاب الكاتب فى مقالة " على هامش الإنسان " أزمة فكرية يشعر أثناءها أن إعجابه بالجنس البشرى يتضاءل حتى يكاد يتلاشى وذلك لأنه يعلم أن الإنسان فى جميع أنحاء الأرض قد خصص كل مواهبه وكافة جهوده وما كشفه من أسرار الطبيعة لفتك إخوانه فى الإنسانية ، واكتشف الكاتب أن الإنسان هو المخلوق الوحيد بين سائر المخلوقات الذى يستحل لنفسه قتل أفراد من جنسه فالأسد لا يقتل الأسد ، وقد تموت الذئاب جوعاً ولا تفترس واحداً منها لتتغذى به ، ولكننا نسمع دائماً بالحروب التى يقتل فيها الرجل آلافاً من الرجال ولا نرى فى ذلك ما يثيرالعجب ، هذا هو الإنسان الذى بنى المدنية وجعلها نواه لمجاعة روحية إنسانية منقطعة النظير فى الهول والشقاء والغرور ، ولعل هذا الغرور فى طبيعة الإنسان هو ما جعل عقله يزين له أنه سيد الأرض بلا منازع ، فما المانع إذن من أن يفسد فيها ويسفك الدماء ؟! ، والإنسان هو سيد الأرض حقاً ولكن سيادته هذه قصيرة المدى لا تتعدى مئات الألوف من السنين فى عمر العالم الذى يقاس بآلاف الملايين من الأعوام ، وتعبيراً عن ضائلة الإنسان فى هذا الكون يقول الدكتور " فان لون " : إن سكان الأرض من الجنس البشرى يمكن وضعهم جميعاً فى صندوق حجمه نصف ميل مكعب .. فإذا وضع هذا الصندوق على قمم جبال الاريزونا ثم سقط إلى وادى الكلورادو فإن سقوطه يحدث صوتاً مزعجاً يعقبه سكون ونسيان .. وتستمر الريح فى الهبوب .. والطيور فى التغريد .. ولن تتأخر الشمس عن الإشراق أوالمغيب .. وبذلك ينتهى الإنسان .. وغرور الإنسان .. وتبقى الأرض .. ولا يتغير العالم " .
شهر زاد فى مجلس الأمن
ويأخذنا الكاتب فى مقال " شهر زاد فى مجلس الأمن " إلى عالم ألف ليلة وليلة الساحر الذى اعتادنا أن نسمع حكاياته فى شهر رمضان الكريم فيحكى لنا عن خادمة شهر زاد التى جاءت لايقاظها وعلى قسمات وجهها خوف وفزع بسبب رغبة الملك شهريار بأن تذهب إليه مسرعة فى هذا الوقت المبكر ، ولكن شهر زاد لم تهاب ذلك وقامت إلى خزائن ملابسها لتتجمل وهى تضحك وتنشد قائلة : قل لمن يحمل هماً .. أن هماً لا يدوم .. مثلما تفنى المسرات .. كذا تفنى الهموم " وذهبت شهر زاد فى أبهى زينتها إلي شهريار الذى ذهب عنه غضبه عندما وقع نظرة عليها قائلاً : " أردت أن أراك لتسرى عن نفسى حزنها ، فقد خرجت اتفقد أمور الرعية فراعنى خلاف بين رؤساء القبائل .. وانقسام بين العشائر بسبب الغرور والأنانية التى تمكنت من النفوس .. كل هذا بينما تتطلع إلينا من وراء الحدود جحافل البرابرة .. منتظرة فرصة مناسبة لتنشب فينا أظافرها .. فبالله يا شهر زاد خففى كربى .. وروحى عن نفسى بحديثك العذب الطلى " فنظرت إليه شهر زاد بابتسامه قائلة:" أطال الله بقاءك .. فبحكمتك سوف يعود إلى القبائل والعشائر اتحادها .. ويبقى للبلاد مجدها "