بقلم/ الدكتور:رجب عبد الحميد الأثرم
يمكن تقسيم تاريخ ليبيا منذ عصر ما قبل الأسرات في مصر وحتى نهاية العصر الروماني إلى فترتين رئيستين على أساس المصادر، التي نستمد منها معلوماتنا عن هذا التاريخ. وتسمى الفترة الأولى بالفترة المصرية، لأن مصادر معلوماتنا عن تاريخ ليبيا تكاد تكون مقصورة على المصادر المصرية. وتسمى الفترة الثانية بالفترة اليونانية الرومانية، لأن كل مصادرنا عنها تكاد تكون يونانية أو رومانية. وتمتد الفترة الأولى منذ عصر ما قبل الأسرات حتى مجيء الإغريق إلى قورينائية في القرن السابع ق.م. وتمتد الفترة الثانية منذ هذا التاريخ وحتى الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. والجدير
لأن مصادر معلوماتنا عن تاريخ ليبيا تكاد تكون مقصورة على المصادر المصرية | هنا بالذكر أن هذه المصادر عبارة عن أخبار تمثل وجهة نظر غير الليبيين، التي لا تخلو من كثرة المبالغات، فضلاً عن أنها لا تمدنا بتاريخ مفصل متصل بالليبيين، ولكنها للأسف المصادر الوحيدة، التي بين أيدينا. ونأخذ من هذه المصادر بعين الحذر ما يخدم تاريخ هذا البلد، لأنه لم يعثر في ليبيا - حتى الآن - على مخلفات أثرية تخص تاريخها قبل قدوم الإغريق، وخاصة فى عصر البرونز، الأمر الذي دعا بعضهم إلى ترجيح خلو المنطقة من هذه الوثائق، ولكننا لا نتفق تماماً في الرأي مع هؤلاء، كما سيتضح من خلال هذا البحث.
أولاً : النظام الاجتماعي :- تساعدنا النصوص المصرية في دراسة المجتمع الليبي بصفة عامة ونظام أسرته خاصة. وإذا كانت مصادر العصر اليوناني تؤكد عادة تعدد الزوجات، فإن المصادر المصرية تكشف عن وجود هذه العادة أيضاً عند سكان ليبيا. وقد ورد في نقوش الكرنك أن مري ابن دد، أمير قبيلة الليبو، كان يصحب معه نساءه وعددهن اثنتا عشرة. كما أشير إلى نساء كيبر ابن دد في نصوص رمسيس الثاني. ونقرأ في لوحة أن الملك نمرود، - وهو ليبي من المشواش - أرسل زوجته نس تنت إلى الملك بينقخي (مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين 715-656 ق.م)، لتطلب العفو منه لزوجها. ويشير النص: "ولما دخل بينقخي قصر نمرود، أمر أن تأتي إليه زوجات الملك وبناته". وهذا النص يقطع بتعدد زوجات الملك الليبي الأصل، لأن المصريين لم يكونوا يتخذون إلا زوجة واحدة. ولا يعني تعدد الزوجات في هذا المجتمع الليبي القديم انحطاط مركز المرأة فيه، لأن المرأة الليبية تظهر في صور الآثار المصرية مرتدية ملابس الرجل، ومتحلية أيضاً بنفس زينته. وهذا في حد ذاته دليل على علو منزلتها في المجتمع الليبي. وبالإضافة إلى هذا فإن نظام الإرث القائم على أساس التسلسل من نسل الأم كان شائعاً بين القبائل الليبية في هذه الفترة. ولعل ظاهرة تعدد الزوجات على نطاق واسع بين الليبيين هي التي أدت إلى وقوع عدد كبير من الكتاب الإغريق والرومان، وفي مقدمتهم هيرودوت في خطأ كبير، ويناقش العالم الإنجليزي أورك بيتس هذه الادعاءات فيعتبرها خطأ وقع فيه الكتاب القدامى من إغريق ورومان، لعجزهم عن تفهم ظاهرة تعدد الزوجات. ويورد دليلين اثنين على ذلك، الأول أن الأوسيس كانوا ينزلون عقوبة الموت بالفتاة المشتركة في بعض طقوسهم الدينية، إذا تبين لهم أنهم كانت فاقدة عذريتها. وقوم هذه الصفة من صفاتهم لا يمكن أن يصح ما قاله هيرودت فيهم. والثاني أن نوعاً من قرابة الدم كان شائعاً في شمال أفريقيا، مما يدل على أنهم كانوا متفقين على نوع من الزواج، يكفي لتحديد قرابة الدم في نطاق الأسرة والقبيلة.
وقد ورد في نقوش الكرنك أن مري ابن دد، أمير قبيلة الليبو، كان يصحب معه نساءه وعددهن اثنتا عشرة وكان هذا الزعيم ينحّى عن مكان الرئاسة إذا ثبت عدم كفاءته
| مجتمع القبيلة وإذا انتقلنا إلى مجتمع القبيلة، وجدنا أنه كان يرأسها زعيم أو رئيس من أسرة معينة تحتكر لنفسها زعامة القبيلة. وكان هذا الزعيم ينحّى عن مكان الرئاسة إذا ثبت عدم كفاءته، ويعهد بمنصبه إلى أحد أعضاء الأسرة الآخرين، كما حدث في حالة الأمير الليبي مري ابن دد الآنف الذكر، الذي هزمه الفرعون مرنبتاح. ويشير النص: "لقد هزم مري وسقطت الريشة من على رأسه.. وكان مساعدوه قد هربوا بسبب خوفه.. وإذا عاش فلن مرة أخرى لأنه هزم. وسينصبون آخر مكانه". ويساعد بعض الأشخاص رئيس القبيلة في تسيير شؤونها، لعلهم كانوا يشكلون مجلساً استشارياً. فقد أشار النص السابق إلى كلمة "مساعدوه"، وأشارت نصوص الملك رمسيس الثالث، إنه أمر أن يحضر إليه الأسرى العشرة، الذين يتولون إدارة شؤونها. وقد تكررت في نصوص هذا الملك رؤساء المشوش، وأشير في نصوص الأسرة الثانية والعشرين الليبية إلى زعماء أرض المشوش، والرئيس الأعظم للمشوش ورئيس الرؤساء. وترينا الصور، التي حفظتها جدران المعابد في مصر بعض علامة تباين في المركز الاجتماعي، وربما كان من علامات الرئاسة إلى جانب الريشة أيضاً، اتخاذ ذيل الحيوان حلية وزينة، ولعلها كانت هي تميز الرئيس عن عامة الليبيين. وكان رئيس القبيلة يجمع في يديه السلطتين الزمنية والدينية: فهو رئيس مجلس القبيلة وقت السلم لإدارة شؤونها، وقائد الجيش وقت الحرب. وإذا فشل فإنه ينحّى ويولى أحد إخوته أو أبنائه مكانه.
عبدوا مظاهر الطبيعة من سحب وعواصف ونجوم وآبار وأشجار، وذكر هيرودت إن الليبيين كانوا يقدمون القرابين للشمس والقمر
| الديانة عند الليبيين :- إذا انتقلنا إلى دراسة ديانة سكان ليبيا ومعتقداتهم، التي كان يتوارثونها – ونأخذ قورينى مثلا على ذلك – لوجدنا أنه من الطبيعي بالنسبة لهم، وفي مثل هذه البيئة، التي عاشوا فيها فلاحين ورعاة وصيادين، أن يكونوا قد عبدوا مظاهر الطبيعة من سحب وعواصف ونجوم وآبار وأشجار، وذكر هيرودت إن الليبيين كانوا يقدمون القرابين للشمس والقمر. ووصف طريقة هذا التقديم، وكل هذه المظاهر كانت عندهم منازل للأرواح. ومن المحتمل أن النبع الموجود في قورينى، الذي أصبح يعرف بنبع "أبوللو" في العصر اليوناني، كان محل تقديس من السكان المحليين قبل قدوم الإغريق إليها. وقد ورد ذكر بعض الآلهة الليبية في الآثار المصرية مثل الإله اش الذي ظهر اسمه في نقوش الأسرة الخامسة. ويدل الأسلوب الذي ذ ُكر فيه هذا الإله في نصوص الملك سحورع، وأنه كانت له مكانة كبيرة في ليبيا، ولكن لا يعُرف عن طبيعة هذا الإله ووظيفته شيء محدد حتى الآن وأما الربة المعروفة في المراجع العلمية حتى الآن باسم نيت، (والأصح تنيت)، فقد ورد ذكرها منذ عصر ما قبل الأسرات على فخار نقادة، واستمر ذكرها شائعاً على الآثار وفي البرديات طوال العصر الفرعوني. وكانت تُعبد في غرب الدلتا، ولم يكن لها طبيعة محددة واضحة. فهي أم للطبيعة وتتصف بالخصب، وقد عثر على الرمز الدال عليها أو شعارها في شكل وشم على أجسام الأسرى الليبيين في نقوش موقع صان الحجر في غرب الدلتا. وفي القسم الغربي من ليبيا أخذ الفينيقيون عن الليبيين عبادة هذه الربة وجعلوها نظيرة للرب بعل حمون وقرينة له. ويشير هيرودت إلى أن الليبيين كانوا يعبدون إله البحر بوزايدون وأن المصريين أخذوه عن الليبيين. ونحن لا نستطيع أن نقرر ما إذا كان هذا الإله ليبي الأصل أم أنه قدم إلى ليبيا مع شعوب البحر، التي تحالفت مع الليبيين في غزو مصر. وهناك أسطورة مصرية تتحدث عن الإله حورس وكيف أرضعته البقرة المقدسة سحت حور، وكيف أصبحت هذه الربة راعية الماشية وحاميتها. وقد استمرت عبادتها طيلة العصر الفرعوني من حدود مصر غرباً حتى قورينى إما باسم حاتحور أم حورس وأما باسم ايزيس. ولا ننسى أيضاً عبادة الثور جيزيل، التي استمرت حتى عصور متأخرة في ليبيا. وهذا ما يفسر لنا إشارة هيرودت، إن نساء قورينى لا يأكلن لحم البقر ويعتبرن أكله إثماً كبيراً. وقد عبد الليبيون الإله آمون الذي كان معبده في واحة سيوة، وانتشرت عبادته داخل ليبيا، إذ كان له معبد في واحة أوجلة. وكانت توجد على ساحل سرت محلة يقال لها آمونكلا وأخرى آمونيس هالوس ورابعة بالقرب من طبرق يطلق عليها آمونوس، ويوجد حالياً جنوب بنغازي موقع يسمى تل آمون، ويشير بيتس في هذا الصدد أنه كان يوجد في واحة سيوة، قبل أن تنضم إلى مصر، إله ليبي قرنه المصريون بمعبودهم آمون. وعزز بيتس رأيه باسم زيوس الطيبي، وفي رأي بيتس أن الإله زيوس آمون اكتسب شهرة واسعة في العالم القديم باعتباره مصدر روحي. وكان الكبش رمزه وحيوانه المقدس، وهو في هذا يشبه الإله آمون المصري، وبالرغم من رفض شامو التسليم بهذا الرأي، إلا أننا مع رأي بيتس في التفريق بين الإله الليبي والإله المصري، لأن واحة سيوه ظلت ليبية حتى احتلها المصريون في منتصف القرن السادس ق.م. وعندما احتلوها وجدوا سكانها الليبيين يعبدون إلهاً مشهوراً فأسماه المصريون باسم رئيس الآلهة المصرية آمون طيبة. هذا بالإضافة إلى أن هيرودت كان واضحاً في التمييز بين الإلهين. فهو دائماً يسمى الإله الليبي باسم زيوس آمون، والإله المصري باسم زيوس الطيبي. ويؤكد هذا الفر
|