القاهرة 30 مارس 2015 الساعة 11:54 ص
عصرت ذهني في الحال أبحث عن ذلك الذي يمكن أن يجمعني مع ذلك الفنان العملاق الذي بدأت حياته الفنية في صحبة أمير الشعراء حتي سماه الناس مطرب الملوك والأمراء <
كنا نظن أن اتفاقية «الدفاع العربي المشترك» قد أصبحت في ذمة التاريخ وأنها مجرد وجود نظري لايحظي باهتمام جاد حتي كاد البعض يعتبرها جزءًا من «الفولكلور القومي» لأن عشرات المواقف الصعبة مرت علي العالم العربي والاتفاقية ساكنة علي صفحات الورق يتحدث عنها الجميع ولكنهم لايحركون ساكنًا، نعم لقد قاتلت قوات عربية في حرب 1973 من مختلف أقطار المشرق والمغرب ولكن ظلت الصورة دائمًا هي أن ما حدث هو مبادرات فردية تقوم بها أقطار عربية وليست تطبيقًا لاتفاقية «الدفاع العربي المشترك» ولكن ما جري في الأيام الأخيرة أيقظ النائمين وأحيا الموتي عندما بدأت الطلعات الجوية السعودية مدعومة بالطيران والبحرية من دولٍ تشاركها الهدف ـ وفي مقدمتها «مصر» ـ تدرك أن الأمن القومي الخليجي هو جزءٌ لايتجزأ من الأمن القومي للدول العربية الشقيقة، ولو سعي العرب إلي مواجهة الفتن السياسية بهذا الأسلوب القومي الذي يعطي للأمة العربية وزنها الحقيقي لأصبحت قوة مهابة وذات مكانة ولخرجنا من سنوات الضعف والهوان خصوصًا في مواجهة القوي غير العربية في الشرق الأوسط وجواره حتي نستعيد مكانتنا المفقودة ودورنا الغائب لأن ما يحدث حولنا تفوح منه رائحة التآمر والرغبة في الإيقاع بين الدول العربية وإضعاف جامعتهم، وبهذه المناسبة فإنني أري أن الحملة التي تستهدف «الأمين العام» إنما تختزل مشكلات «الجامعة العربية» في شخص الرجل بينما مشكلاتها أعمق وأقدم لأنها تتصل بالإرادة العربية والرغبة في التنازل عن قدر من الصلاحيات الوطنية تعطي لهذه المنظمة القومية الإقليمية، كما أن مشكلات «الجامعة العربية» هي جزء لايتجزأ من محنة «التنظيم الدولي المعاصر» علي المستويات الإقليمية والقاريَّة والدولية، وفي غضون ما جري كانت العودة الظافرة للرئيس المصري من «الخرطوم» و»أديس أبابا»، ولست أزعم أن الرجل قد أنهي تمامًا مشكلة «سد النهضة» فالمسألة لاتزال بحاجة إلي جهودٍ أخري من جميع الأطراف خصوصًا وأن اتفاق المبادئ الذي يعتبر إطارًا عامًا للمستقبل تكررت فيه كلمة «حسن النوايا» خمس مراتٍ أو أكثر بما يعني أن ما جري هو عملية زرعٍ للثقة تحتاج إلي العمل عليها والانطلاق منها فوق أرضية صلبة من المصالح المشتركة، لقد كانت اللغة الهادئة للرئيس المصري رسالة جديدة إلي الشعب «الإثيوبي» الذي ورث تاريخًا ثقافيًا يعتبر «نهر النيل» نهرًا غير وفيٍ لأهله لأنه ينبع من «الحبشة» ويعطي الخير لغيرها خصوصًا «لمصر» التي سماها «هيرودوت» «هبة النيل»! إن هذه الثقافة الأحادية يجب أن تختفي وأن يدرك جميع الأطراف أن المصلحة مشتركة وأن النيل للجميع بدءًا من دول المنبع وصولاً إلي دول الممر والمصب، وبذلك تدرك الشعوب أنها تمخر عباب النهر بقارب واحد قد يطفو بالجميع أو يغرق بهم جميعًا، إننا أمام مرحلة تاريخية جديدة ترتبط بالتحولات الكبيرة التي تجري علي أرض «الكنانة» ونتمني لها أن تصل إلي الإنسان المصري ذاته لأن التحولات المادية لاتصنع تقدمًا وإنما يصنعه التحول في الإنسان نفسه! إن تطور الأحداث في المنطقة العربية وحوض النيل الإفريقي يبعثان معًا الأمل في تفكير مختلف وعقل رشيد وجرأة في القرار فلقد كانت ذكرياتنا القومية دائمًا ذكريات متراجعة لاتدعو للأمل بل تددفع نحو اليأس، ولكن قراءة أحداث الأيام الأخيرة قد غيرت المسار وحوَّلت الاتجاه وجعلتنا علي أعتاب مشهدٍ مختلف نرجو له أن يتواصل، ولقد لاحظت أن البعض يبدي قلقًا من المشاركة العسكرية المصرية تحت وهم ذكريات «حرب اليمن» في العصر الناصري وأنا أقول لهم ولغيرهم إن الدور الإقليمي لمصر هو سندها الداعم ومصدر تألقها المستمر، «فالكنانة» لاتعيش وحدها ولا تقبل العزلة ولاتحتمل الانكفاء لأنها «واسطة العقد» و»عمود الخيمة» و»درة المنطقة»، كما أن مشاركتها فيما يجري حولها هو دفاع مباشر أيضًا عن الأمن القومي المصري الذي يعتبر هو الجائزة الكبري لكل الطامعين في المنطقة أو الداعين للنيل منها، ولقد أعاد المؤتمران «قمة دعم الاقتصاد المصري» ثم «القمة العربية» جزءًا كبيرًا من مكانة «مصر» الإقليمية ودورها العربي، خصوصًا وأنه قد فصلت بينهما تلك الرحلة الموفقة للرئيس المصري لكل من «السودان» و»إثيوبيا» والتي أذابت الجليد في تلك المناطق الاستوائية وأعادت جسور الثقة من جديد بيننا وبين أشقائنا العرب والأفارقة، ولست أزعم أن مشكلاتنا قد حلت كلها ولكنني أدعي أننا نخطو خطوات ثابتة علي الطريق الصحيح.
ليلة «عبد الوهاب»
دعتنا الأديبة الدكتورة «لوتس عبد الكريم» إلي سهرةٍ متميزة في «نادي العاصمة» تحت مظلة صالونها التاريخي الشهير الذي يتواصل عطاؤه علي امتداد العقود الأربعة الأخيرة، وكانت المناسبة هي تكريم اسم فنان الشعب الموسيقار «محمد عبد الوهاب» حيث حضرت ابنته وأحفاده تلك الأمسية واحتشد لهذه المناسبة المرتبطة بعيد ميلاد موسيقار الأجيال عدد من المفكرين والسياسيين والإعلاميين والفنانين، وقد تحدثنا جميعًا عن ذكرياتنا مع ذلك الهرم الفني الكبير في تاريخنا المعاصر كلٌ من زاويته، فقد حكيت عن اتصالاتي التليفونية معه إبان فترة عملي في مؤسسة الرئاسة ولقائه بالرئيس الأسبق «مبارك» الذي رتبته له وقتها بناءً علي طلب الفنان الكبير الذي قال لي في أول اتصال هاتفي منه إن بيننا شيئًا مشتركًا فعصرت ذهني في الحال أبحث عن ذلك الذي يمكن أن يجمعني مع ذلك الفنان العملاق الذي بدأت حياته الفنية في صحبة أمير الشعراء حتي سماه الناس مطرب الملوك والأمراء، لقد قال لي الأستاذ «عبد الوهاب» يومها أنه كان صديقًا «لمكرم عبيد باشا» الذي كان يعزف علي العود ويهوي الغناء وكانت له أمسيات مع الفنان الكبير في أربعينيات القرن الماضي ثم يضيف الأستاذ «عبد الوهاب» أنه قد علم أنني حاصل علي الدكتوراة من جامعة لندن حول موضوع «الأقباط في السياسة المصرية» مع دراسة تطبيقية حول المسار التاريخي «لمكرم عبيد باشا» الذي كان وطنيًا كبيرًا ولم يكن أبدًا طائفيًا محدودًا، ثم طلب مني الأستاذ «عبد الوهاب» في ذات المكالمة الهاتفية أن أبلغ الرئيس الأسبق برغبته في تعيين المحامي الشهير «لبيب معوض» عضوًا في مجلس الشوري، وعندما جاء الأستاذ «عبد الوهاب» للقاء الرئيس «مبارك» بمكتبه «بالقصر الجمهوري» أمضي معه أكثر من نصف ساعة وعندما هم بالانصراف اطمأن من ضرورة وضع صورة اللقاء بالصفحة الأولي في الصحف القومية الثلاث بالتنسيق مع المسؤول الإعلامي للرئاسة، ويومها قلت للرئيس مازحًا «هل تعلم يا سيادة الرئيس أنك الحاكم السادس لمصر الذي يلتقي ذلك الفنان الأسطورة باعتباره موسيقار مصر الأول فقد استقبله الملك «فؤاد» والملك «فاروق» واللواء «محمد نجيب» والرئيس «جمال عبد الناصر» والرئيس «أنور السادات»، فرد الرئيس مبتسمًا وقال: بل سوف يستقبله أيضًا من يأتي بعدي ولكن ذلك لم يحدث فقد رحل الرجل في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولازلت أتذكر عندما دق الهاتف في منزلي عند منتصف الليل وكانت المتحدثة هي الأخت والصديقة الفنانة «ياسمين الخيام» ابنة مرتل القرآن الكريم والداعية الإسلامي الراحل الشيخ «محمود خليل الحصري» وقالت لي يومها أن «عبد الوهاب» قد فارق الحياة منذ دقائق وأنها تجلس مع قرينته الفاضلة السيدة «نهلة القدسي» يتلوان القرآن علي روحه، وأدركت لحظتها أن صفحة مضيئة من تاريخنا الثقافي والفني قد طويت إذ لم يكن «عبد الوهاب» مجرد فنان كبير ولكنه كان أيضًا مثقفًا ضخمًا غني بأشعار الكبار وأثري حياتنا طربًا راقيًا وفنًا رفيعًا، كما كان حكاءً متميزًا ومحدثًا رفيع الشأن.. رحمه الله بعد أن امتد عطاؤه سنين عددًا، وسوف يبقي في ذاكرة العرب والمصريين زمنًا طويلاً.
تأبين الشهداء
أقامت أسقفية الشباب بالكاتدرائية المرقسية «بالقاهرة» احتفالاً متميزًا تكريمًا لشهداء مذبحة الواحد وعشرين مصريًا قبطيًا الذين جري نحرهم في جريمة بشعة لن تسقط أبدًا من ذاكرة التاريخ ولن يمحوها التقادم مهما طال الزمن لأنها نموذج للفعل الإرهابي الإجرامي الوحشي الذي لم نشهد له مثيلاً في العصر الحديث، وقد حضر المناسبة البابا «تواضروس الثاني» وعدد من الوزراء والمحافظين وكبار الأساقفة يتقدمهم الأنبا «موسي» أسقف الشباب والأنبا «أرميا» مدير المركز الثقافي للكنيسة الأرثوذكسية، وقد قدم شباب الكنيسة في تلك الأمسية عرضًا فنيًا يفوق الخيال تحت عنوان «ملحمة الخلود» حتي تصورت أن القائمين عليه محترفون وليسوا أبدًا مجرد هواة ومتطوعين، فالعمل رصين من الناحية الفكرية، إبداعي من الناحية الفنية ولكن الذي هز مشاعري وجدد أحزاني أن أري البسطاء القادمين من «سمالوط» من أسر شهداء مذبحة «ليبيا» وكل واحدٍ منهم يحمل صورة كبيرة لشقيقٍ من الشهداء أو لابنٍ من أولئك الذين واجهوا الموت بشجاعة وتركوا لنا ميراثًا لن يغيب عن ضمير «مصر» التي لاتنسي أبناءها بل تمجد شهداءها، فالشهادة في سبيل الله والوطن هي أرفع درجات المكانة في التاريخ كله، خصوصًا وأن الواحد وعشرين مصريًا من أقباط الصعيد لم يرتكبوا جرمًا ولم يقوموا بفعلٍ عدواني علي أحد ولكنهم ضحايا العنف والإرهاب الذي استهدف من ذهبوا يبحثون عن لقمة عيشٍ شريفة لذلك فهم شهداء للإنسانية جمعاء ول