القاهرة 30 مارس 2015 الساعة 11:26 ص
ما أشد حزنى إذ أسمع أخبار الاقتتال فى اليمن. أقول لنفسى: هل فرغ اليمن أو العرب من مشكلاتهم حتى يفتحوا موضوع الاختلاف بين الشيعة والسنة؟
بل هل يصح أن يثير أحد اليوم (ومشكلاتنا المعقدة تزيد على الحصر) الخلاف حول ما إذا كان علىّ بن أبى طالب أجدر بالخلافة من أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية؟ ناهيك عن أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا، لاختلافهم حول هذا الأمر؟
يزداد حزنى إذ أتذكر ما شعرت به لدى رؤيتى لليمن لأول مرة (وهى المرة الوحيدة) فى أوائل الثمانينيات. كم بدت لى صنعاء وقتها مدينة رائعة الجمال، وشعبها راقيا، وأقرب فى ظرفه وحكمته إلى قلوب المصريين، ربما أكثر من أى شعب عربى آخر. بدا لى فى ذلك الوقت أن المشكلة الأساسية التى تواجه اليمن، وهى فى بداية اتصالها بالعالم الحديث، هى اختيار أفضل أنماط التنمية، وأكثرها ملاءمة لظروف اليمن، وإلى أى حد يجب أن تقتبس من الغرب دون الإضرار بأى شىء جميل فى الحياة الاجتماعية اليمنية وتراثها العريق؟ هل يعقل أن تصبح المشكلة بعد ثلاثين عاما، خلافاً ثار منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، بين أنصار علىّ وأنصار معاوية؟
بدا لى، منذ ثلاثين عاما، أن الخطر الأساسى الذى يواجه اليمنيين هو أن يفرض عليهم فرضا من أنماط التنمية ليس هو أفضل الأنماط، سواء من وجهة النظر الاقتصادية أو الاجتماعية أوالأخلاقية، أو الجمالية، لمجرد أنه هو النمط الذى يخدم مصالح اقتصادية أجنبية.
كنت أعرف عندما شرعت فى السفر إلى اليمن أن الأمم المتحدة تصنفها (مع 22 دولة أخرى) فى مجموعة يطلق عليها «أفضل الدول نموا» مع دول كالحبشة والصومال وأفغانستان، وهو وصف مهين لأى دولة، خاصة لدولة كانت تسمى حتى وقت قريب «اليمن السعيد» فلما رأيت اليمن أدركت أن الوصف ليس فقط وصفا وقحا بل مدعاة للسخرية، ليس من اليمن بل من الأمم المتحدة إذ فلتأت الأمم المتحدة بمعمار أجمل من المعمار اليمنى، وبنظام أنسب للاستغلال الزراعى من المدرجات اليمنية، أو بشعب أكثر اعتزازا بلغته وتراثه من الشعب اليمنى، أو بحياة اجتماعية أكثر صلابة، أو بعاصمة أكثر هدوءا ووداعة من صنعاء، باستثناء الشوارع الثلاثة الرئيسية التى غزتها البلاد الصناعية (الأكثر تقدما) بسياراتها وضجيجها وتلوثها، وانكبابها على الربح. نعم، كان لابد من تعميم المياه النقية الصالحة للشرب وتخفيض مستوى الأمية، وهذا ومثله هو المبرر الحقيقى لقيام ثورة اليمن فى 1962، ولكن هل يصح باسم القضاء على الركود أن تأتى الدول الصناعية وجيوش الخبراء الأجانب لكى تبيع لليمن آلاف السيارات الخاصة، ولتبنى لليمن فنادق ليس هناك أدنى صلة بين معمارها والمعمار اليمنى، أو مبنى للبنك المركزى اليمنى يحجب الجبل المحيط بصنعاء ويكاد يتسع لايواء سكان صنعاء برمتهم، وهل كان خروج اليمن من عزلتها يفرض بالضرورة أن تضطر العائلة اليمنية للجلوس لمشاهدة برامج تليفزيونية من نوع (العالم يغنى)؟ وأن تضطر الفتاة اليمنية أن ترتدى فى استعراض عيد العمال، قميصا أبيض يحمل على ظهره اعلانا عن «السفن أب» كما رأيت بعينى على شاشة التليفزيون اليمنى؟ هل مثل هذا هو الذى يؤهل اليمن للخروج من فئة (أقل دول العالم نموا)؟ قال لى شاب يمنى ظريف، وهو معلق على الحملة التى تثار فى وسائل الإعلام ضد غرام اليمنيين بالقات: هل استقر الرأى على أن الخمر الأوروبى والأمريكى أفضل للصحة والحياة الاجتماعية من القات اليمنى؟ والله لو منعونا من زراعة القات، لصدروه لنا معلبا!.
ها أنا الآن بعد أكثر من ثلاثين عاما، أتساءل من جديد عما إذا كان الخلاف المحتدم بين أنصار الشيعة وأنصار السنة فى اليمن يرجع فى الحقيقة إلى نفس الأغراض الخارجية الخبيثة، وأنه ليس كما يبدو خلافا فى الرأى، ولا حتى نتيجة منافسة على الظفر بالسلطة، بل إنه لا يستهدف إلا إلى تهيئة اليمن (بل المنطقة كلها) لمرحلة جديدة من مراحل تطور المصالح الأجنبية فى هذه المنطقة وفى العالم ككل.
دفعتنى هذه الخواطر إلى العودة إلى قراءة بضع صفحات عن الخلاف بين الشيعة والسنة وردت فى كتاب (حياتى) لأبى الأستاذ أحمد أمين، إذ وصف فيها رحلة قام بها إلى العراق مع بعض أساتذة الجامعة المصرية فى سنة 1931، أى منذ نحو 85 عاما. ومر خلالها بحادثة كادت تودى بحياته، وتتعلق بهذا الخلاف نفسه.
كتب أحمد أمين أنه تصادف زيارته، مع الأساتذة المصريين مدينتى نجف وكربلاء، وهما من حصون الشيعة كانت فى وقت ذكرى مقتل الإمام علىّ بن أبى طالب، فرأوا العامة فى كربلاء يضربون صدورهم ضربا شديدا حتى ليدموا أجسامهم حزنا على الإمام، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن. وعلق أحمد أمين على هذا بقوله» «أسفت لهذه المناظر وحملت مسئولية ما يعمل فى هذا الباب علماء الشيعة وفيهم فضلاء أجلاء مسموعو الكلمة يستطيعون أن يبطلوا كل هذا بكلمة منهم، ولكن لا أدرى لماذا لا يفعلون !
ثم حدث ذلك الحادث الخطير، إذ دعى الوفد المصرى إلى واحد من مجالس العزاء التى يقيمها الشيعة فى ليالى مقتل الإمام علىّ، وكان يقام فى ضاحية الكرخ، من ضواحى بغداد فرأى الزوار المصريون دارا واسعة احتشد فيها ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص، ثم قام الخطيب الأساسى، وهو رجل شيعى طلق اللسان وقوى التأثير فى السامعين، فإذا به بعد أن رحب بالوفد المصرى يذكر أن أحمد أمين فى كتابه (فجر الاسلام) تجنى على الشيعة، وأخذ يقرأ بعض الفقرات من الكتاب التى تتضمن نقدا لبعض أفكار الشيعة فهاج الحاضرون وأكثرهم من الشيعة الذين تؤلمهم مثل هذه الأقوال أشد الألم ولا يمنعهم من أن ينكلوا بكل من ينتقد عقيدتهم فلما زاد هياجهم وصياحهم، نصح بعض الحاضرين أبى وبقية الوفد المصرى بالتسلل من باب خلفى للخروج والنجاة بأنفسهم.
أضاف أحمد أمين إلى ذلك قوله:
»هذا الخلاف بين السنة والشيعة فى العراق، جر عليه كثيرا من المصائب والمحن، وبذل جهوداً ضاعت فيما لا يعتبر لو صرفت فى خير الأمة وتقدمها بقطع النظر عن سنى وشيعى، لعادت على أهلها بالخير العمم.
ولئن كانت الخصومة بين أصحاب علىّ وأصحاب معاوية معقولة فى زمنها أو بعد زمنها، فلم تعد معقولة الآن، إذ ليس هناك نزاع على خلافة ولا إمامة، وإنما هو نزاع على أيهم أفضل، أبوبكر وعمر أم علىّ، وهذه لا يبت فيها إلا الله، ومن السخافة أن نضيع أوقاتنا فى مثل هذا الكلام. وكل العقلاء متفقون على أن كلا من الثلاثة رجل له فضله ومزاياه، والله وحده هو الذى يتولى مكافآتهم على أعمالهم، ويزنهم بالميزان الصحيح ويقدرهم التقدير الحق، وما عدا ذلك فالخلاف بين الشيعة والسنة كالخلاف بين حنفى وشافعى ومالكى لا يستدعى شيئا من الخصومة. ولكن أفسد الناس ضيق العقل، وعواطف العامة، ومصالح بعض رجال الدين، وصبغ المسائل السياسية بالصبغة الدينية».
وهو كلام لايزال فى رأيى صحيحا وملائما حتى اليوم وهو يصلح للعراق كما يصلح لليمن أو أى بلد عربى آخر ولكنى أضيف إلى ضيق العقل وعواطف العامة ومصالح بعض رجال الدين وصبغ المسائل السياسية بالصبغة الدينية» الأطراف الخارجية التى تفيد من وجود هذا الخلاف، بل من إثارته أصلا بعد أن كان خاصا.