القاهرة 25 فبراير 2015 الساعة 03:30 م
ــ التعرف على الذات أول طريق التعرف على الهوية
ــ العاقل من يصنع قاربًا يعبر به النهر، بدلاً من أن يبني حوائط حول نفسه تحميه من الفيضان.
ــ لا يجد الإنسان من يضعون أيديهم في يده، إذا كانت يده مقبوضة
إن الخوف من التفوه بشيء خطأ أو حتى قول شيء صحيح بطريقة خاطئة يجعل بعض الناس لا يرتاحون كثيرًا للكلام أمام الآخرين، ويعتبرونه عبئا ما بعده عبء فيظلون على وضعهم صامتين، وربما تجدهم يهربون من تلك المواقف التي تقتضي منهم أن يتكلموا ، وكم هي كثيرة جدًا تلك المناسبات التي توجب علينا أن نتكلم: المطالبة بالحقوق، مثلا ، تولى إدارة من الإدارات بما يتطلب ذلك من توجيه المرؤوسين والتحاور معهم، ومع الرؤساء، حضور اجتماعات الشركة، النادي، الأسرة، التحدث للإذاعة أو التليفزيون، الكتابة للصحافة، كتابة الرسائل، تبادل كلمات الغرام مع الحبيبة، مع الزوجة، الحديث مع الأصدقاء، الجيران، ممارسة التجارة قبل ذلك كله الكشف عن الهوية الذاتية التى هى جزء من الهوية الكلية .. ولكن بعضنا يخاف، ذلك الخوف الذي زكَّاه أحد الكتاب بقوله: «أن تظل صامتًا ويظن أنك أحمق، خير من أن تفتح فمك وتتأكد الظنون». ترى هل كان تحريضٌ مثل هذا، هو ما ألجم لسان تلميذ سقراط، فجعله يظل صامتًا بينما الأستاذ يدير حواره مع تلامذته؟
من أجل التخلص من هذه المخاوف أولاً، ثم من أجل الهدف الأسمى لصناعة الكلام وهو التواصل الفعَّال مع الناس ثانيًا، ثم التعرف على الهوية الذاتية قبل ذلك ، من أجلنا نحن، من أجل أن نعرف الناس ويعرفوننا بهوياتنا ، صرخ سقراط في تلميذه الصامت قائلاً: يا بني تكلم حتى أراك. تكلم حتى يراك الآخرون. ولنتواصل جميعًا من أجل الحياة. ويوضح لنا صلاح جاهين في رباعية جميلة أن عدم الكلام والتعبير عما بالنفس يسهم في زيادة الهم ورسوخه ، يقول جاهين :
عيني رأت مولود على كتف أمه
يصرخ ، تهنن فيه ، يصرخ تضمه
يصرخ ، تقول ياابنى ما تنطق كلام
ده اللى ما يتكلمش يا كتر همه
عجبى
ولكن احذر وأنت تتكلم أن تكون مثل هؤلاء المتقعرين، المتحذلقين : رجل ذهب إلى الطبيب يشتكي له قائلاً: أكلت من لحوم هذه الجوازل، وطسئت طسأة، فأصابني وجع بين الوابلة ودأية العنق، فلم يزل ينمو ويربو حتى خالط الخِلبَ والشراسيف» ومثل آخر سُئل عن ابنه فأجاب: أخذته الحمّى فطبخته طبخًا، ورضخته رضخًا وفتخته فتخًا، فتركته فرخًا؟ وفي رجل دعا ربه في صلاة الاستسقاء فقال: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا، مريعًا، مجلجلاً، مُسحنفرًا، هزجًا، سَحَّاً، سفوحًا، طبقًا، غدقًا، مثعنجرًا» أو مثل غراب، أستاذ جنة العصافير فى أحد الأفلام المصرية (عبد السلام النابلسى ) حين لجأ إليه صديقه لكي يكتب له خطابا يستميل به قلب حبيبته فأملى عليه الخطاب التالي: عصفورتي الغريدة، أدامك الله وأبقاك زخرًا... وتحية كالنسيم العليل البليل من عصفور أصابه النهيل، هذا العصفور المسكين أصابته عاصفة غضبك، فانكسر جناحه واحسرتاه.. واحسرتاه.. وا حسرتاه..ريشه منتوف، وشعره مكشوف، ولونه مخطوف!
ويحكى أن الإمام الشافعي كان يجلس أمام تلاميذه متبسطًا مادًا رجله لألم بها، ودخل عليهم المسجد رجل ذو هيبة ووقار لم يكن الشافعي يعرفه، فطوى رجله احترامًا لهيبة الرجل ووقاره ظنًا منه أن يكون الرجل أحد العلماء، واستمر في درسه. وبمجرد أن انتهى الشافعي سأله الرجل سؤالاً لا ينم عن انتمائه للعلم، بل كشف سؤاله عن جهل فاضح وعدم فهم للدرس، فتعجب الشافعي ولم يجبه، وإنما اكتفى بأن مد رجله، وهو يقول: آن للشافعي أن يمد رجله .
من أجل ألا نكون مثل هذا الرجل ومثل من ضربنا بهم الأمثلة من المتعاظلين، فلابد أن نسعى إلى تنمية قدراتنا على التحاور مع الآخرين ، على أن نبين وأن نعبر عن أنفسنا، وعن هوياتنا ، حتى نؤسس علاقات ممتازة مع المجتمع ، ونقيم تواصلاً فعَّالاً ومثمرًا، يدعم الهوية الجمعية ويرعى محدداتها مثل الدين واللغة و يضيف إلى الحياة نفسها فعالية وبهاء.
إن الحوار يلف الكون والأشياء، وبه تثمر الحياة وتستمر، الشمس هناك والنبات هنا، كيف ترى الحياة بدون حوارهما، النجوم والكواكب، الرياح والسفن، الروح والجسد، بل الجسد نفسه الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، هي آيات الله في كونه، الدالة على عظمته، التى ما تنفك تقول لنا كل يوم، بل كل لحظة عن عظمة الله وطلاقة قدرته، وآياته ..
حوار في حوار في حوار
لا شيء يجافي سنة الله في خلقه ومشيئته
الكلام هو نافذتنا المهمة، والواسعة التي نطل منها على هوياتنا وعلى الآخرين، نعرفهم ويعرفوننا، نراهم ويروننا، به يكون اتفاقنا واختلافنا، به تكشفت الهويات وعليه قامت الحضارة وبه تعارف الناس، ونشأ العمران، وساد الإنسان مملكة الله على الأرض.. فهل تريد أن تصمت أنت؟ إن كل من حولك وما حولك يمد إليك يده، يريد أن يتواصل معك، يقول لك كما قال الفيلسوف لتلميذه: تكلم حتى أراك.. تكلم حتى نتواصل معًا.. فليس الآخرون هم الجحيم «كما قال سارتر» عليك دائمًا أن تكون باسطًا يدك، منفتحًا بروحك وعقلك على من حولك وقد قيل:« لا يجد الإنسان من يضعون أيديهم في يده، إذا كانت يده مقبوضة»، كذلك قيل: «العاقل من يصنع قاربًا يعبر به النهر، بدلاً من أن يبني حوائط حول نفسه تحميه من الفيضان».
لا سبيل أمامنا لكي نتحاور ونتواصل مع غيرنا، ونكشف عن هوياتنا سوى «الكلام» وكذلك لا سبيل إلى التعبير عن أنفسنا والإعلان عن شخصيتنا سوى باللغة، التى هى أحد محددات الهوية ووعاء الفكر .
قديمًا قال سقراط: «اعرف نفسك» وأنت لا تستطيع أن تعرف نفسك من غير أن تتكلم، فكلامك يدل عليك، كما قال سقراط قولته الشهيرة الباقية: «تكلم حتى أراك» قالها لتلميذ له كان يجلس طوال الوقت صامتًا، وقد كانت حلقة سقراط ودروسه تقوم على "الحوار" ، ولأن سقراط لم يكن فيلسوفًا أو معلمًا متكلمًا فقط، بل كان يعتبر أن الاستماع إلى الآخرين (فن) فيه فوائد كثيرة للمستمع، إذا أجاده، حيث يمكِّنه من معرفة «الموضوع»من كافة وجهات النظر، افتقد سقراط وجهة نظر تلميذه الصامت، افتقد مشاركته في إنتاج المعرفة والوصول إلى الصواب من خلال ضرب الآراء ببعضها البعض ، من خلال إقامة الجدل بينها.. لذلك صرخ فيه: يا بني تكلم حتى أراك..
كان حرص سقراط على أن يعرف تلميذه نفسه، التي لن يعرفها إلاّ إذا تكلم، وتواصل مع الآخرين، ورأى في مرآواتهم نفسه، هو السبيل الأوضح لأن يتطور، وأن ينمو بشكل صحي.. فالحوار يطوِّر وينمي ويوسِّع مدارك المتحاورين جميعًا، مهما كان حجم إسهامهم فيه.
إننا لا نريد أن نختصر قيم الناس فى قدرتهم على التحدث فقط، وعلى براعتهم في الكلام.. فرب شخص لا يجيد التعبير عن نفسه بالكلام المنطوق، ولكنه يجيد التعبير عن نفسه بطريقة أخرى، كمن يعبر عن نفسه بالموسيقى، أو بالرسم، أو بحسن آدائه في عمله كالطبيب الناجح أو الموظف الكُفء أو العامل المُجِّد، أو المهندس المعماري أو البناء الذي تتحدث عنه عمارته، يقول الإمام علي كرم الله وجهه «قيمة كل إنسان ما يُحسن».
كما يمكن القول إن كل تعبير عن الذات بأى آداة كانت هو تعبير أيضا عن الهوية، والتى يمكنها أن تتجلى فى كل منتج بشرى أصيل .
إن التعبير عن الذات بعمق يساعد على خلق بيئة فعالة، عفية، ويفعل الهويات الساكتة ، لذلك لابد أن نتمرن جميعًا على الكلام، أن نطلق أصواتنا دون خوف ولا حبسة.. فتكلم حتى أراك