قصة: محمد جبريل
(من مجموعة " فى الليل تتعدد الظلال " ـ كتاب اليوم أكتوبر 2010)
لم نكن نجد فى كلمات جدتى ما يثيرنا، أو يدفعنا إلى التساؤل. نعرف أن الخيال فى ما تتحدث عنه يختلط بالحقيقة، ما ترويه جدتى حدث بالفعل، لكن الخيال يضيف إليه، وينقص منه، يحوره فيصنع ما لم يكن فى أذهاننا ولا تصورناه. ما تراه قد يكون وقائع غير حقيقية، وربما توهمته، تشهدنا لأنها تريد أن تصدق نفسها، وتدفعنا إلى تصديقها، تدرك أننا نعانى الحيرة فى ما إذا كانت تروى ما شاهدته، أم أنها تلجأ إلى التخيل. وجد أبى فى كلمات جدتى حظاً كبيراً من الأنس والاتصال، وما يرقى إلى كرامات الصوفية. هى تملك الرؤية والفعل، تفيض عليها الإلهامات والمكاشفات بما يختص به أولياء الله والتابعين. وقال عمى هارون إن جدتى على صلة بمن لا نراهم، خواص من الأخفياء أصحاب السر، سترهم الله، وأخفاهم عن الناس، فلا أحد يراهم سواها. وتحدث عمى هارون عن عوالم لا حصر لها من الملائكة، تسمع ـ وحدها ـ أصواتهم، يكشفون الغوامض، ويعينون على المعانى، وتوضيح ما يخفى، ويتنبئون بالوقائع قبل حدوثها، وأذاع عم مصباح خادم زاوية خطاب، إنها خاوت جنياً، هو الذى يملى عليها رؤاها، وإن وهبها الله فى النوم ما تدركه من عالم الغيب، تصحو من نومها ـ فتشير لأهل الحى بما يصلح لهم، وينفعهم. تكتنز عباراتها بالحكم والإشارات والدلالات والمعانى. تجلى بصيرتها ما يبدو محجوباً، وتجلى مرآة سريرتها ما حوته الأسرار. كانت تتطلع إلى ما يتجاوز الميدان وتقاطعات الطرق والبحر. ننظر إلى حيث تذهب عيناها. تشير بأصابعها إلى من لا نراهم، وإلى نفسها. تتكلم، وتتكلم، كلمات متقطعة، وعبارات غير مكتملة. كأنها تخاطب مجهولاً، تتلاحق الكلمات، كلمات واضحة ومدغمة، تلجأ إلى تعبيرات يديها، تنبسط ملامحها وتنقبض، يخفت صوتها، ويعلو، تعكس ملامحها توقعات ومخاوف، نلتقط مفردات الشارع والجامع والوقف والميدان، وأسماء أخرى نحاول وصلها بما يشكل المعنى الذى ربما تقصده. يعروها انفعال وهى تكلم نفسها، يبين فى تقلص ملامحها، وتعبيرات يديها، كأنها تتجه بكلماتها إلى أشخاص حقيقيين. وكانت ترنو إلى الأفق بحثاً عن علامات. قال أبى إن جداً لنا قديماً، عنى بالجامع. أوقف عليه ما يدر ريعاً للإنفاق على خدم الضريح، ومريدى المرسى من أتباع الطريقة الشاذلية، وأرباب الأشاير، والفقراء، والعجزة، واليتامى . تتابعت توكيلات الورثة فى حق إدارة الوقف، ما يتصل به من أراض وعقارات. حتى الطرق الموصلة بين البنايات ظلت تابعة للوقف، لا تؤول إلى المنفعة العامة، ولا إلى غير الورثة. الذاكرة هى صلة جدتى الوحيدة بالمحكمة الشرعية، على ناصية شارع فرنسا وشارع سوق السمك القديم. تنزل درجات سلم البيت المطل على شارع سيدى خضر. تخترق الشوارع المتقاطعة ـ بخطوات متباطئة ـ حتى التقاطع. تميل إلى اليسار ناحية الباب الخشبى المفتوح. تصعد الدرجات الرخامية المتآكلة، إلى الطابق الأول. تدفع الباب ـ فى المواجهة ـ إلى الصالة الواسعة، تجاورت فيها المكاتب الخشبية ، علاها دوسيهات وأوراق. كان أبوها، ومن قبله جدها، والسابقون من العائلة، يحرصون على تسجيل معاملاتهم، كتابة، وتوثيقها بالمحكمة الشرعية. تلجأ إلى المحكمة لمراجعة ما كان يقتصر عرضه على المحكمة الشرعية: وقائع الزواج والطلاق، طلب شجرة العائلة لإثبات الأحقية فى الوقف، حصر التركات وأسماء الورثة، مراجعة خرائط المساحة، وكشوف الضرائب العقارية، وصحة نفاذ البيع أو الشراء، تقديم الضمانات، المشاركة، الأمانات، الاختلاف حول مشروع تجارى أو صفقة، المطالبة بقروض طال التوقف عن دفعها. أهملت ما بدا على الشيخ عمار ـ رسيم ذكر البوصيرى ـ من انشغال بضبط إيقاع الحضرة: إشاراته بهزات الرأس، وتصفيق اليدين، تنعكس على أداء المنشدين فى وقفتهم وسط الحلقة، وعلى قيام الذاكرين وقعودهم وسكونهم وذكرهم، انتقالهم من طبقة إلى أخرى فى سرعة الإيقاع وصوت الإنشاد. علا صوتها بكلمات متلاحقة، تعيب على إمام جامع البوصيرى أنه حصل لنفسه على ما فى صندوق النذور، وما تدره الموالد من أموال وعطايا يقدمها الناس إلى مقام البوصيرى. اغتنى الرجل بما ليس من حقه. شاب صوتها مرارة فى شكواها عن أبى. أجهده السأم والتعب، فقبل التنازل عن حقوق لنا كى نضمن الحياة فى طمأنينة. أعلن يأسه من رفع القضايا، وكتابة المحاضر والعرائض والشكاوى، وإرسال البرقيات، وجمع الأدلة، والتأكد من صحة توثيق العقود، وحضور تحقيقات النيابة، ومقاومة الضغوط، وحسبة الأنصبة بما يضمن العدالة. الوصى الذى فرض نفسه على المحكمة، دون اعتبار لما يطلبه الورثة، مارس من الحيل ما يصعب تصوره، ولا مواجهته. لا يتصرفون فى أموال ولا عقارات إلا بموافقة الوصى، هو الذى يقرر. إذا أعوزته الحيل، فإن الأذية ـ بتحريضه ـ تخضع من يشغله الاعتراض، أو المناقشة، أو حتى السؤال. فاجأها الشيخ عمار بالقول : ـ أنت تناقشين أمور الدنيا، وحضرتنا تتجه إلى الآخرة. وهى تخلى ملامحها للدهشة: ـ نحن نعيش فى الدنيا ! قال: ـ لا شيء فى الدنيا يساوى ذكر الله ! ولوح بقبضة يده: ـ عدا ذكر الله ، فإن كل ما فى الدنيا ملعون! ثم وهو يتابع الكلمات بهزات رأسه: ـ الحضرة تلزمنا بأن نقطع كل علاقة تحول بيننا وبين مقصودنا. وأغمض عينيه، ورفع رأسه: ـ مقصودنا هو الذات الإلهية. تعددت الروايات حول المكانة التى بلغها بين المتصوفة والذاكرين، وإن اتفقت على الظروف التى دفعته إلى ترك الدنيا، والإقبال على الآخرة. كان تاجر علافة فى شارع الموازينى، شغله البيع عن أداء صلاة الظهر ـ جماعة ـ فى موعدها. أيقظته ـ آخر الليل ـ كلمات تحذره من التخاذل والمماطلة والتسويف. لام نفسه على انشغاله بغير ما يجب الانشغال به. عزم على هجر ما كان قد انساق إليه، وتدارك ما فاته من امتثال لأمر الله. ترك مفتاح الدكان لأكبر أبنائه، ولاذ بمقام البوصيرى. أراد ألا يكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. زهد، وتقشف، واتقى، وتورع، وأعرض عن التكسب. صرف قلبه عن الهمم الدنيوية، تسامى عن كل ما يفسد المرء بربه، وعن الدنيا وزينتها. أسرف فى الندم والتوبة والبكاء. جمع من حوله الذاكرين، ينشدون فى الحلقة بين صلاتى العصر والمغرب، على الرصيف ما بين حد الجامع وميدان أبو العباس. قصر معظم أوقاته على الذكر، أخذه ذكر الله عن نفسه، وعن الناس، فنيت نفسه عن نفسه، ظلت فى الله وبالله، وامتلأت بالمراقبة والأنس. خضع للذل والانقياد والامتثال والضعف والخشوع وقبول الأمور على علاتها، والرضا بما يخفف عنه الحساب. سحب الشيخ عمار نظراته إلى أفق البحر: ـ وجدت ربى فلا أنظر لشيء سواه! وغير نبرة صوته: ـ تعلمنا أن المناقشة فى أمور الدنيا تورث الخلاف. وضرب الفراغ بيده كمن ينهى المناقشة: ـ الدنيا ليست همنا! أغلقت جدتى عليها باب البيت، فأدركنا أن صدود الشيخ عمار لها أحزنها. كانت تتوسط فى المنازعات العائلية، يعرض عليها أفراد العائلة ما يواجههم من مشكلات، فنيت صحتها فى خدمتهم، وكثرت همومها من أجلهم. لم يشغلها ما يتمناه كل شخص لنفسه. ألفنا كلماتها المحذرة، وتوبيخها لمن يخطئ ـ على مرأى من الناس ـ ودفعه إلى الرجوع عن غيه. كانت تعطى انتباهها لمن ينتحى بها جانباً، يهمس لها بما يعانيه، تنصحه بكلمات قليلة، أو تعده بالبحث عن حل. تدرك ما يريد محدثها بمجرد النظر فى عينيه. ربما أدركت المعنى دون حاجة إلى النظر. كانت تسلم نفسها لطمأنينة قدرية، ولقوى خفية تدفعها إلى التصرف الصحيح. لم تكن تميل إلى التفاؤل أو التشاؤم، ولا تؤمن بالأحجبة والتمائم وأعمال السحر، وإن أجادت تفسير الأحلام، ورواية حكايات الأشباح والأرواح والأطياف المخفية، وكانت تحرص ـ قبل أن تذهب إلى النوم ـ على قراءة الفاتحة والمعوذتين وآية الكرسى. ثالث يوم، غادرت جدتى البيت وهى تعانى لهاث أنفاسها. قالت للرجال على قهوة مخيمخ: أمضيت فترة بعد الظهر فى لقاء سيدى المرسى. انتظرت حتى انتهت صلاة الظهر، أعرف أنه يؤديها بالقرب من ضريحه أسفل الجامع، أظهرت له نفسى، وطلبت عونه. صرفنى بوعد اللقاء فى الأرض الخلاء خلف قلعة قايتباى، لحق بى فى الموعد المحدد. كلمته عما نعانيه، سأل، وتقصى، وتحرى الأسباب. رويت له المشكلة من بداياتها. رنوت إليه أنتظر رأيه. أشارت إلى خالى مراد، وقالت: ـ استمع إلى كل ما قاله سيدى السلطان. أهملت نظراته المرتبكة: ـ أليس كذلك؟ أومأ برأسه مؤمناً. كانت جدتى تبدأ يومها بتناول قطعة جبن وكوب من الشاى، لكنها ـ ذلك الصباح ـ صامت عن الطعام والشراب. لم تتكلم عن البواعث، ولا إن كانت قد فطنت إلى ما فعلته أصلاً. رافقها إلى ميدان أبو العباس محامى له سمعة طيبة وهيبة. وزع رجالاً يحيطون به فى أرجاء الميدان، وعلى مفارق الطرق والنواصى، ومداخل الشوارع الجانبية والحارات. قاسوا المساحات بآلات يحملونها، حتى البنايات المطلة على الميدان، أحصوا مجموع طوابقها وشققها والعدد التقريبى لسكانها. نسبوا كل شيء إلى عائلتنا التى خاض أفرادها ـ فيما روى المحامى ـ معارك لم يعدوا أنفسهم لها. لم يبق على قيد الحياة سوى عدد قليل، طال صمتهم. لم يحاولوا استعادة حقوقهم المغتصبة. غاب طرف خيط البداية، الشيوخ وحدهم يستعيدون ما حدث، ويروون الحكايات. أخذت جدتى على نفسها مسئولية تثبيت الوراثة، من بقى من عائلتها هم الملاك الحقيقيون لمساحة الميدان والبنايات المحيطة. ت
|