بقلم/ منى وليد
تسعى هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على الدراسات المستقبلية وبدايتها ومدارسها، وكيف صارت حقلا معرفيا مستقلا، يجمع بين عدد من التخصصات المختلفة والمتنوعة فى منظومة علمية واحدة تتخذ منهجات متعددة ورؤى مختلفة، وهل استفاد الفكر السياسي العربي من هذا العلم أم تعامل معه باعتباره موضة فكرية. البدايات والتطور: من الفلسفة والأدب إلى مناهج العلم: يرجع تاريخ الاهتمام بالمستقبل إلى البدايات الأولى للتطلع البشرى إلى المعرفة الشاملة بالكون واستكناه غوامضه وأسراره وفى مقدمتها الزمن، وذلك بهدف السيطرة على حركته والتحكم فى مساره. ويمكن تبين ذلك بوضوح فى التراث الأسطوري والديني للبشرية، حيث توجد الجذور الأولى لعلم المستقبل فى صور وأشكال مختلفة. وحقيقة الأمر أن إقبال المفكرين والمؤرخين على دراسة التاريخ كان يحمل دوما الرغبة الخفية فى محاولة استشفاف المستقبل. ولم ينفرد العلماء أو الفلاسفة والمؤرخون بالعمل على الاقتراب من خفايا المستقبل بهدف الكشف عن إرهاصاتها وتكوين رؤية معينة لهذا المستقبل، بل كان للشعراء والأدباء دور خاص فى هذا المضمار، ويكفى للتدليل على ذلك أن نشير إلى مؤلفي اليوتوبيات كأفلاطون وتوماس مور، وكان للأديان رؤيتها للمستقبل كحقيقة حتمية يتحرك إليها (المؤمن) دون أن يملك إمكانية تعديلها أو تحويل مسارها، وليس للمؤمن إلا التسليم بها كما أنزلت. ورغم أن الفكر البشرى قد عمد منذ القدم إلى دراسة وتأمل البعدين المعروفين للزمن والمقصود بهما الماضى والحاضر، إلا أن الاهتمام باستطلاع المستقبل لم يغب مطلقا عن ذهن قدماء الفلاسفة والمؤرخين والمصلحين، فظواهر العرافة والكهانة والتنجيم التى تميزت بها الحضارات القديمة فى مصر وبابل واليونان والهند تدل على الاهتمام المبكر الذى أولته البشرية لمحاولة استطلاع المستقبل وفهم مساراته. وتختلف الآراء حول تحديد البداية العلمية للدراسات المستقبلية، إذ يرى البعض أنها ترجع إلى نهاية القرن الخامس عشر الذى شهد ظهور كتاب توماس مور المعروف باسم (اليوتوبيا) الذى يطرح فيه تصورا مستقبليا للمجتمع المثالي الذى يخلو من كافة أشكال الاضطهاد والظلم والأنانية. ثم تلاه فى نهاية القرن السادس عشر حتى الربع الأول من القرن السابع عشر كتاب الفيلسوف الإنجليزى فرانسيس بيكون باسم (أطلنطا الجديدة) وهو يطرح رؤية مستقبلية للعالم من خلال تصوره لمجتمع جديد يعتمد على العلم كوسيلة أساسية لتغيير العالم والسيطرة على الطبيعة وتحقيق مستويات حياتية أفضل للبشرية. بينما يعزو البعض الآخر أول محاولة لاستطلاع مستقبل الجنس البشرى على أسس علمية إلى القرن التاسع عشر الذى شهد النبوءة الذائعة الصيت الخاصة بالسكان للاقتصادي الإنجليزى توماس مالتوس، الذى عرض فى دراسته عن (نمو السكان) رؤية مستقبلية تتسم بالتشاؤم لحل التناقض الاجتماعي الناتج عن الثورة الصناعية، الذى تمثل فى تزايد أعداد الفقراء وتصاعد احتمالات الصرع الطبقى فى ظل سيطرة الطبقة الرأسمالية فى المجتمع البريطاني آنذاك. وتوقع مالتوس أن يتم التغلب على هذا التنافس من خلال الأوبئة والمجاعات والحروب التى تتولى تصفية الفقراء وإيقاف تزايدهم الذى يهدد مصالح الفئات التى تتحكم فى مصادر الإنتاج والثروة والنفوذ السياسى. ولكن لم تتحقق توقعات مالتوس، وتم حل هذا التناقض عن طريق آخر هو الاستعمار، إذ بدأت بريطانيا تتوسع فى انتزاع مناطق شاسعة من قارتى آسيا وأفريقيا. وقد ترتب على استغلال الموارد الطبيعية والبشرية لهذه المستعمرات تحسنا ملحوظا فى أحوال الطبقة العاملة خصوصا فقراءها فى بريطانيا، مما ساعد على حل الصراع بصورة سلمية على حساب شعوب المستعمرات فى العالم الثالث. ومن أبرز إضافات القرن التاسع عشر لعلم المستقبل ظهور عدد من الأعمال الروائية لجول فيرن (1828-1903) والذى استطاع من خلالها أن ينفذ ببصيرة حادة إلى مجاهل المستقبل، ويطرح العديد من التوقعات المثيرة للعقل والوجدان فى روايات كان أشهرها (حول العالم فى ثمانين يوما) و(عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر). وهناك إجماع بين مؤرخى علم المستقبل على أن الكاتب البريطانى إتش. چى. ولز قد قدم إضافات بارزة فى تأصيل الاهتمام العلمى بالدراسات المستقبلية، وذلك من خلال العديد من دراساته ذات الطابع المستقبلى مثل التوقعات (1901)، واليوتوبيا الجديدة (1905)، وشكل الأشياء المستقبلية (1933)، وجميعها تدور حول استكشاف حياة وهموم الأجيال المقبلة. كما أن له أيضا كتاب صغير مشهور عنوانه اكتشاف المستقبل The Discovery of The Future ظهر فى بداية القرن الماضى ولا يزال يطبع حتى الآن ويتناوله الكثيرون بالدراسة والتحليل. وقد جسدت أعمال ويلز روح التشاؤم التى طغت على أوروبا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتصاعدت بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية خلال العشرينيات والثلاثينيات، وانتهت بالحرب العالمية الثانية. وبقدر ما أسهمت المحاولات السابقة فى تشكيل الرصيد المعرفى للدراسات المستقبلية فى إطار يتميز بالطابع العلمى، فإن الدراسات المستقبلية لم تكتسب معناها الاصطلاحي علميا إلا فى أوائل القرن العشرين على يد عالم الاجتماع س. كولم جيلفان الذى اقترح عام 1907 إطلاق اسم (ميلونتولوجى) على حقل الدراسات المستقبلية، وهى كلمة ذات أصل يونانى معناها أحداث المستقبل، لكنها لم تحظ بالانتشار أو القبول فى الأوساط العلمية، ولذلك طواها النسيان. إلا إن المؤلف الألمانى أوسيب فلنختهايم (وهو من أصل روسى وقد تعرض للاعتقال والتعذيب على يدى النازى عام 1935، ثم تمكن من الهجرة للولايات المتحدة) قد توصل إلى اصطلاح بديل (Futurology) وهو الاسم الشائع لهذا العلم باللغة الانجليزية، أما الاصطلاح الفرنسى لعلم المستقبل فهو (Prospective) الذى ابتكره جاستون برجيه عالم المستقبليات الفرنسى. وقد شهدت الأربعينيات إقبالا ملحوظا على الدراسات المستقبلية خصوصا فى الدول الصناعية المتقدمة. وقد تمثل هذا الإقبال فى ازدياد عدد العلماء المشتغلين بالدراسات المستقبلية من جانب، وفى إنشاء العديد من مراكز البحوث المستقبلية ثم فى صدور الكثير من المؤلفات المنتمية إلى هذا الميدان من جانب آخر.
سارتر و برجيه آباء المدرسة الفرنسية والحرب العالمية الثانية وراء ميلاد الأمريكية
| وحظيت الدراسات المستقبلية بالاهتمام والانتشار فى الدول الغربية والدول الاشتراكية على السواء، وتوالت موجات متتابعة من الأعمال المتخصصة فى ميدان الدراسات المستقبلية، وظهرت أجيال جديدة فى مختلف التخصصات مثل التعليم والمواصلات والطاقة إلى جانب المتخصصين فى الدراسات المستقبلية المتصلة بالاستراتيجية العسكرية. وشهدت هذه الفترة ظهور سلسلة كتب للكاتب ألفين توفلر عن المستقبليات التى بدأت بكتاب (صدمة المستقبل)، وكتاب (التعليم من أجل المستقبل) وأعقبهما كتاب (الرجال المستقبليون) ثم كتاب (الموجه الثالثة). الدراسات المستقبلية فى إطار المدارس المعاصرة: المدرسة الفرنسية: تتميز المدرسة الفرنسية فى الدراسات المستقبلية بالنشأة ذات الطابع الفلسفي والفكري، فقد خرجت من أعطاف الفلسفة الوجودية وروادها من المفكرين الفرنسيين مثل جان بول سارتر وجاستون برجيه الذى سعى إلى استخلاص المفهوم الوجودي عن مسئولية الفرد وحريته فى تشكيل حياته، وحاول تطبيقها على الشعب الفرنسي كوحدة جماعية منسجمة وقادرة على إعادة تشكيل المجتمع الفرنسي الذى عانى من ويلات الحرب العالمية الثانية إلى حد التعرض للدمار الشامل. وقد تبلورت جهود برجيه فى إنشاء المركز الدولي لعلم الريادة فى باريس عام 1957. ويمثل هذا المركز حجر الزاوية فى الدراسات المستقبلية فى فرنسا. المدرسة الأمريكية: ترجع البداية الأمريكية فى حقل الدراسات المستقبلية إلى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث بددت تطورات الحرب وأحداثها الوهم الذى سيطر على المسئولين الأمريكيين فى أن الموقع الجغرافى المتميز للقارة الأمريكية قد يجنبهم مخاطر الحروب التى قد تندلع فى أية لحظة فى سائر مناطق العالم. ومن هنا جاءت البداية فى المجال العسكرى، حيث كانت مصحوبة بالرغبة فى تطوير أساليب الدفاع والحماية العسكرية. ويمثل استطلاع كارمان المعروف باسم (نحو آفاق جديدة) والذى صدر عام 1947 الحلقة الأولى فى سلسلة الدراسات الاستطلاعية التى تم إجراؤها للتعرف على الإمكانيات الدفاعية للولايات المتحدة، وقد انتهت هذه الدراسات بتأسيس أول مركز للاستطلاع التكنولوجى البعيد المدى للجيش الأمريكى. ثم تطور الاهتمام فى هذا الميدان وانتقل إلى مجال الفضاء على مشارف الخمسينيات. وقد شهدت هذه الحقبة بدء ظهور مشروعات مدنية تركز على الدراسات المستقبلية فى الميادين الاجتماعية والتعليمية. ومن أبرز الإسهامات المنهجية التى قدمتها المدرسة الأمريكية فى مجال البحوث المستقبلية أسلوب (دلفى)Delphi Method الذى يمثل رؤية عصرية للدور الذى كان يقوم به كهنة معبد دلفى فى الحضارة اليونانية القديمة بالنسبة للتكهن بالمستقبل، وقد أصبح هذا الأسلوب لصيقا بالدراسات المستقبلية وخصوصا أن استحداثاته المتنوعة فى إطار هذه الدراسات قد أعطى عائدا خصبا فى مجال التنبؤات التكنولوجية والاجتماعية. الإسهامات العربية فى مجال الدراسات المستقبلية: لاشك أن ما يبدو على الساحة العربية من افتقاد شبه تام للرؤية المستقبلية يضع الوطن العربى كله، وبكل ما يزخر به من ثروات طبيعية وبشرية وما يحمله من تراث حضارى، أمام مأزق تاريخى مخيف يوحى باحتمالات الغياب والانقراض التدريجى للدور العربى على المستوى العا
|