القاهرة 14 ديسمبر 2014 الساعة 03:06 م
كان ينام فوق دكة خشبية، ساقاه مضمومتان، ساعده الأيسر يدفئ به معدته، ويتخذ الأيمن وسادة، مشدودا نحو الأسفلت، مخدوشا فى أنامل أصابعه الغليظة، الخشنة، المنتفخة مثل الكرات، وينام فوق دكة باهتة، نخرها السوس، إحدى رجلى البنطلون مرفوعة قليلا، تجعل رؤية لحم الساق الشاحب متاحة، الزغب كثير، الجورب بنى، مجعد، حزين، به رقع فى الأسفل، بألوان ضاربة للزرقة، تخرج من حذائه الأسود، كان الرجل النائم فوق الدكة الخشبية يبكى فى النوم، رقيقا، ضئيلا، مثل طفل مريض.
كان الشارع موحشا،والأشجار المزهرة حديثا، تفىء ظلالا كثيرة يشطرها ضوء المصابيح فى السماء بقعة ضباب فى طريق سانتياجو، وومضات النجوم تنقر النوم فى أعين حراس الليل.
تسمع خطوات وانية لاثنين من الحرس، حديثهما خافت، وثمة فأرة فى حفرة تلتهم فى حذر بقية طعام الأطفال.
الحارسان يقطعان الوقت خطوة خطوة، يتحدثان فى أمورهما الخاصة، كانا حارسين كهلين، لهما أولاد كثيرون، حين ينتهيان من عملهما يعملان عملا آخر فى أى مكان لكى يكملا النفقات، حييا بوابا ليليا يجلس على عتبة الباب.
مساء الخير، كيف حالك؟
مساء الخير، بصحة ونوايا حسنة.
إلى اللقاء.
إلى اللقاء.
يتابع الحارسان سيرهما، فتح أحدهما كنانته، وأخرج منها لوحا من الشيكولاته.
أتريد؟
لا، إننى أدخن.
إن هذا تصنعه لى زوجتى لئلا أجوع ليلا.
كنت أقول لك إن أخت زوجتى تعمل فى مصنع، وهذا يساعدنا كثيرا اقتربا من الدكة التى ينام فوقها الرجل الذى يبكى وهو نائم.
هلا نجلس قليلا؟
حسنا، لابد أن تكون هنا دكة.
يفتش الحارسان فى الظلال.
ها هنا دكة.
الضوء الذى ينشره عمود النور القريب يشطر الدكة فى أحد أطرافها، والرجل النائم فوقها كان فى الجانب المظلم، تُبيّضه فى قذارة السائق المكشوفة، بينما كان الحارسان على خطوات منه.
من هناك؟
الحارس صاحب الشيكولاته أظهر عدم الاهتمام عند رؤيته.
سكران.
الحارس الذى تعمل أخت زوجته فى المصنع، ومساعدتها له حسنة لم يرتح لانشغال الدكة، ونسى الرحمة، فمن الممكن أن يكون النائم ابن سبيل.
ليكن سكران، أو صاحيا، فلابد من إيقاظه.
لكن إيقاظه لم يكن لازما، فقد استيقظ الرجل وحده، بسط ساقية نحو الأرض، جلس، معه منديل أبيض مصفر، مقطوع من جهة، ربما يكون مأخوذا من ملاءة قديمة جدا، مسح به الدمعة الأخيرة.
ماذا؟
ماذا تصنع هنا، ألا تعرف أن النوم ممنوع على دكك الشوارع؟
استغرب الرجل.
نوم؟ آه، نعم، لقد غلبنى النوم، لكن لى بيتا، ألا تعرفان؟
لى بيت، إننى خرجت لاستنشاق الهواء، وجلست، إنكما تعرفان.
انحرف الحارسان إلى الجانب الآخر.
لا يبدو أنه سكران.
هذا أسوأ، لابد من رؤية بطاقته، قال الحارس صاحب الشيكولاته :
فلنر، ألا تتفضل بإظهار بطاقتك؟
البطاقة؟ متعجبا، البطاقة؟ تكاد كلماته تخرج حرفا حرفا.
نعم، يا رجل، أليس لديك ورقة تقول من أنت؟
وقف الرجل، كان ربعة، يمكن أن يكون فى الأربعين، غير حليق الذقن، شعره مرجل من جهة، والجهة الأخرى التى استند على ذراعه نحوها لينام غير مرجلة، شعره منفوش، تتوارى الشعرات البيضاء فى عارضه الأسود، وحين تهب الريح تظهر البيضاء واشية بهرمه، تجعله يبدو مستهلكا جدا، مثل المنديل الذى مسح به دمعة النوم، ألح الحارس صاحب الشيكولاته:
أليس لديك ورقة تقول من أنت؟
أدخل الرجل يديه مسرعا فى جيوب جاكتته، انتظر الحارسان، نظر الرجل إلى ثيابه.
آه... لقد لبست هذه الجاكتة القديمة لأظل بها فى البيت، ألا ترون؟ ترك الرجل يديه ترتخيان بجانب جسمه.
لا، ليس معى هنا أية وثائق.
أتقيم قريبا من هنا؟
تردد الرجل.
نعم حسنا، ليس قريبا جدا، إننى تمشيت إلى هنا...
الحارس الذى نسى الرحمة، كان فى يده نوته: اسمك؟
خوسيه فرناندث لويناجا
خوسيه فرناندث لو..... ؟
غمز الحارس بعينه، وعوج فمه، ونص أذنه.
لويناجا، لكن يا سيدى إننى أستطيع أن أشرح لك....
حدد إجابتك، ما تحب أن تقوله قله فى قسم الشرطة.
ما وظيفتك أو مهنتك؟
أنا الآن ماشٍ... وإن كانت وظيفتى من قبل أسطى لدعم ألواح الخشب، كنت فى المواني، ضعف بصري، لم أعد أصلح، أستخدم نظارة، تركتها فى البيت.
تابع الحارس أسئلته:
أين تسكن؟
بجانب النهر، قريبا من الجسر الكبير.
فى أى شارع؟
ليس شارعا بالتحديد.
كيف أنه ليس شارعا؟
لا، إننا نعيش هنالك مجموعة من الأسر.... قطع الحارس صاحب الشيكولاته الأسئلة. حسنا، فلتصحبنا، ولتشرح كل ذلك للمأمور.
أخذ خوسيه فرناندث لويناجا يرتجف، توسل ضارعا:
بالله عليك، دعنى أمشي، فإن لى ابنا....
حسنا جدا، لكن عليك أولا أن تصحبنا، إنه مجرد روتين.
دس خوسيه فرناندث لويناجا يديه فى جيب بنطلونه، وشرع يمشي، والحارسان يحيطان به.
شجعه الحارس صاحب الشيكولاته:
إنه أمر بسيط يا رجل، عليك أن تثبت شخصيتك، وكل شيء تمام.
وأضاف صاحبه:
والآن، لا يخطر ببالك أية حماقات، مستغلا الظلمة.
عند المرور على البواب الجالس على عتبة الباب، قال البواب:
مساء الخير، ماذا فعل هذا؟
لا ندرى مساء الخير.
جرت الفأرة فى ممر الجحر، ضاعت فى ظلال الأشجار، شرع البواب يلف سيجارة فى تقتير، مفكرا أن اللصوص حاليا أكثر من ذى قبل، حينما قدم من قريته فتي، إلى العاصمة بمشورة عم له، بحقائبه فى المحطة، صفقت بعض الأيدي، ضرب البواب بمقرعته حافة الرصيف، بعدها أخرج ساعته، الساعة الرابعة، ظل يفكر، يفكر فى أن الذى ينادى لابد أن يكون دون خوسيه الذى يعيش فى رقم 7 والذى يعود كل ليلة سكران إلى بيته، ذهب إليه.
نعم، إنه دون خوسيه فى رقم 7، والذى يعود كل ليلة سكران إلى بيته.
مساء الخير، دون خوسيه.
تمتم دون خوسيه، وتبختر فى اشمئزاز:
ماذا فعل هذا الرجل الذى قبض عليه الحارسان؟
لا أدري، دون خوسيه، ربما حاول السرقة. أشعل البواب نور المدخل، وبسط يده، دس فيها دون خوسيه ريالين.
وفى القسم أدلى الحارسان ببياناتهما، وتركا خوسيه فرناندث لويناجا مع المأمور، كان المأمور رجلا سمينا، رفيقا، ذا ميل شديد إلى حل الكلمات المتقاطعة، بعد قليل خرج يتبعه الرجل المقبوض عليه.
اسمع أيها الحارس، ليجلس هذا حتى السابعة والنصف، بعدها يصحبه أحدكما إلى بيته، للتأكد من هويته، إذا كان شيء واضحا تماما فلا شيء، وإذا لم يكن فليعد مرة أخرى هنا.
جلس خوسيه فرناثدث لويناجا على مقعد أصفر، شبك ذراعيه، مال رأسه على صدره، قدم له الحارس صاحب الشيكولاته علبة سجائره.
دخن يا رجل.
شكرا، لا أدخن، لقد أقلعت عن التدخين.
وفى المكتب، ظل المأمور يضرب أخماسا لأسداس بحثا عن كلمة تبدأ بحرف «الهاء» وتنتهى بحرف «الهمزة».
تشكى خوسيه فرناندث للحارس:
إننى رجل شريف، لم أفعل شيئا سيئا، لا أدرى لماذا أظل هنا؟
اهدأ، فبعد قليل أصحبك، وكل شىء تمام.
«كل شئ تمام» هى العبارة المفضلة لدى الحارس.
أخذ يشرح خوسيه فرناندث لويناجا:
لقد خرجت من بيتى أتمشي، أتعرف؟ لدى طفل مريض، مرضا خطيرا وقد ظللت ليالى طوالا سهران بجانبه، دون نوم، بعد ذلك أذهب للعمل، أتفهم؟ لذا بقيت على الدكة، كنت مجهدا، وأود أن أنام فى سلام.
فهم الحارس كل شىء.
لكن يا رجل، من الذى يخطر بباله أن يخرج من داره دون بطاقة؟
إن عندنا تعليمات، والتعليمات هى التعليمات .
مر الوقت، دقت ساعة القسم الضخمة السابعة والنصف.
جاهز؟ هيا بنا.
حينما وصلا إلى الجسر الكبير، تقدم خوسيه فرناندث لويناجا بضع خطي.
إننى أعيش هنا أيها الحارس.
نزلا إلى منحدر، حيث تنهض أخصاص مبينة من الطوب اللبن وقطع الصفيح.
هذا هو بيتي، تفضل أيها الحارس.
أطل الحارس برأسه، امرأتان جالستان على مقعدين صغيرين، ينظران إلى مائدة خشبية بيضاء، فوقها يتمدد طفل، وفى ركن هنالك فوق حشية ثلاثة صبية، ينظرون بدهشة إلى الحارس الذى مال برأسه.
تقدم يا سيد خوسيه، لقد وضح الأمر.
أخرج الحارس شيئا من جيبه ودسه فى يد خوسيه. وداعا خوسيه.
ماذا؟
أسرع الحارس، استقرت فى يدى خوسيه المجعدتين القذرتين المرحومتين ورقتان من فئة خمس بيزتات.
كان طفل خوسيه ينام فى سلام، وفى الأصيل حملوه إلى المقابر.