القاهرة 28 اكتوبر 2014 الساعة 03:08
الفصل الاول : أحد السعف
لحظة أن ألقى بابا بكتاب القداس بقوة في اتجاه جاجا في حجرة الطعام، وكسر التماثيل الصغيرة داخل رف الخزانة الخشبية، بدا الأمر وكأن كل شيء في المنزل آخذ في الانهيار. لم يكن شقيقي جاجا قد ذهب إلى القداس، ولم يتناول القربان الرباني، وكنا قد عدنا للتو من الكنيسة. وضعت ماما سعف النخل الأخضر المرطب بالماء المقدس على طاولة المائدة، وصعدت الدرج لكي تغير ملابسها قبل أن تقوم في وقت لاحق بصنع صلبان من السعف الأخضر، لتعلقها على الحائط بجانب إطار مذهب يحيط بصورة فوتوغرافية لأفراد العائلة، ولتظل صلبان السعف هناك في مكانها حتى أربعاء الرماد، أول أيام الصوم الكبير، وعندئذ نأخذها إلى الكنيسة لإضرام النار فيها وتتحول إلى رماد.
اعتاد بابا في كل عام ارتداء عباءة رمادية طويلة كبقية الذين نذروا أنفسهم لخدمة الكنيسة، والمساعدة في توزيع رماد صلبان السعف، بقيامه بالضغط بإبهام يده المغطاة بالرماد على جبين كل شخص بالصف الذي يتحرك أمامه ببطء والحرص على ترك أثر رماد الصليب ظاهراً على الجبين، أثناء قوله: من التراب وإلى التراب نعود.
يحضر بابا قداس الكنيسة، ويجلس في الصف الأول من صفوف المقاعد الطويلة، عند الطرف المجاور للممشى الأوسط، وإلى جانبه تجلس ماما وجاجا وأنا، ويكون هو أول من يتناول القربان الرباني، ساجداً أمام المذبح الرخامي، ومغمضاً عينيه بشدة تجعل قسمات وجهه أميل إلى الانقباض والالتواء، ثم يخرج لسانه إلى أقصى ما في وسعه، وبعد انتهائه من تناول القربان يعود إلى مقعده ليراقب بقية حشد المصلين المتوجهين إلى المذبح وهم يفعلون الشيء الذي علمهم إياه الأب بينيديكت، الذي بالرغم من استمراره في عمله بكنيسة سان أجنيز لمدة سبعة أعوام، إلا أن حشد المصلين لا يزالون يطلقون عليه "قسيسنا الجديد"، وربما لم يكونوا قد أطلقوا عليه هذا الوصف لو لم يكن قسيساً أبيض البشرة.
لا يزال الأب بينيديكت جديداً في لون وجهه الذي لم يتحول إلى شيء من السمرة، بالرغم من لفح الرياح الجافة شديدة الحرارة المثقلة بالغبار لسبعة مواسم متتالية في نيجيريا، وفي أنفه البريطاني الذي لا يزال كسابق عهده صغيراً وضيقاً ومضغوطاً، وهو الأنف الذي جعلني منذ أول ظهور له في إنوجو في شدة القلق من عدم تمكنه من التقاط ما يكفيه من هواء يحفظ له حياته.
كان الأب بينيديكت قد غير بعض الأشياء في الأبرشية، مثل إصراره على تلاوة الصلوات باللغة اللاتينية فقط، وعدم قبول لغة الإجبو في الصلاة، والاستعانة بالتصفيق بالأيدي في أضيق الحدود، حتى لا ينال التصفيق من جلال ومهابة القداس، لكنه سمح للترانيم المصاحبة لجمع الصدقات بأن تنشد بلغة الإجبو، وهي الترانيم التي وصفها بالأغاني الوطنية، وعند نطقه كلمة "الوطنية"، كان قد طوى شفتيه المستقيمتين عند زاويتي فمه إلى أسفل مكوناً الحرف u في وضع مقلوب.
ودائماً يستشهد الأب بينيديكت بأقوال البابا أولاً ثم بابا ثم يسوع المسيح، ويستعين ببابا في الإتيان بأمثلة من الكتاب المقدس، كقوله في يوم أحد السعف: عندما نهدي ضياءنا للناس فإننا نعكس بذلك انتصار السيد المسيح. وفي يوم آخر قال: انظروا إلى الأخ إيوجين.. كان من الممكن أن يختار الشيء نفسه الذي اختاره كبار رجال المال والأعمال في بلادنا، أو كان في إمكانه الجلوس في المنزل دون أن يفعل شيئاً بعد الانقلاب، حتى لا تتهدد أعماله التجارية من قبل الحكومة.. لكنه لم يفعل ذلك، بل جاهر بقول الحقيقة في صحيفة "ذي ستاندرد"، حتى لو أدى ذلك إلى أن تخسر صحيفته الإعلانات.. لقد تحدث الأخ إيوجين دفاعاً عن الحرية، فكم منا وقف ليناصر الحقيقة؟.. وكم منا عكس في تصرفاته انتصار السيد المسيح؟
قالت جموع المصلين بصوت غير عال: "نعم.. باركه الله"، ثم أصاخوا السمع وعم الهدوء المكان، حتى أن الأطفال كفوا عن البكاء، وكأنهم بدورهم أرادوا سماع ما يقال، تماماً مثلما يحدث في بعض أيام الأحد، عندما يستمع المصلون جيداً إلى الأب بينيديكت، حتى وإن تحدث في أشياء يعلمها كل فرد منهم، مثل حديثه عن تبرعات بابا السخية للكنيسة بصناديق النبيذ المستخدم في القربان، وبأفران جديدة لإعداد خبز القربان، وبجناح جديد لمستشفى سان أجنيز الذي يوليه الأب بينيديكت أهمية كبيرة. في تلك الأثناء كنت أجلس وركبتاي مضمومتان معاً وإلى جانبي جاجا الذي يبذل جهداً لكي يبدو وجهه خالياً من أي تعبير، ومن أي أثر لكبرياء، لأن بابا دائماً يؤكد لنا الأهمية البالغة لفضيلة التواضع.
عندما أنظر إلى وجه بابا، لا أجد فيه أثراً لتعبير أو انفعال، وهو ذات الوجه الذي بدا في الصورة الفوتوغرافية التي التقطت له عندما أثير من حوله جدل كبير عقب قيام منظمة العفو الدولية بمنحه جائزة حقوق الإنسان، وهي المرة الوحيدة التي سمح فيها لصحيفة ذي استاندرد بأن تكتب عنه، بعد إصرار من رئيس تحريرها "إد كوكر" الذي قال إن بابا يستحق أكثر من ذلك لولا أنه يبالغ في تواضعه. حول هذه الجائزة، قالت ماما لي ولجاجا: بابا لم يخبرنا بها وهو لا يتحدث إلينا عن مثل هذه الأشياء.
يظل وجه بابا خالياً من أي تعبير أو انفعال أثناء تناوله القربان من الأب بينيديكت على أثر انتهائه من مراسم القداس، ثم يعود بابا إلى مقعده ليراقب المصلين أثناء توجههم إلى المذبح لتناول القربان، وبعد ذلك يبدأ بابا بالتحدث إلى الأب بينيديكت وعلى وجهه علامات الجدية عن شخص لم يتناول القربان ليومي أحد متتاليين. ودائماً كان يطلب بابا من الأب بينيديكت أن يستدعي الشخص الغائب، لكي ينضم من جديد للمصلين، مؤكداً أن لا شيء يعوق أحداً عن القداس وتناول القربان سوى موت روحه.
- جاجا، أنت لم تذهب لتناول القربان
قال بابا في هدوء وتساؤل.. لكن جاجا أطال النظر إلى كتاب القداس فوق طاولة المائدة وقال: خبز القربان يسبب لي ضيقاً في التنفس.
حدَّقتُ النظر في وجه جاجا.. هل فقد عقله؟. أصرَّ بابا على تناول جاجا قطعة الخبز الرباني، تلك الرقاقة الهشة بنكهة الشوكولاته أو الموز، التي تنتج في أحد مصانعه والتي يفضلها الأطفال أكثر من البسكوت.
- والقس يظل ملامساً فمي مما يصيبني بالغثيان
تحدث جاجا وهو يعلم أنني أنظر إليه في هلع بعينين تتوسلان إليه أن يغلق فمه ويصمت، لكنه لم ينظر إليّ.
- إنه جسد الرب.. لا يمكنك التوقف عن تناول خبز الرب وإلا سيكون الموت.. هل تعلم ذلك؟
كان صوته خافتاً وبدا وجهه الذي تنتشر فيه كرات متقيحة من الجلد في حجم رأس الدبوس أكثر انتفاخاً وتورماً.
- سأموت إذن
زاد الخوف من سواد عينيه اللتين تحول لونهما إلى لون قار الفحم، ونظر في وجه بابا وقال:
- إذن سأموت، بابا
بسرعة طالع ببصره كل أنحاء الغرفة، وكأنه يبحث عن برهان على أن شيئاً ما قد سقط من السقف المرتفع، أو أن شيئاً لم يكن يتوقعه سيسقط من أعلى. أمسك بالكتاب المقدس وقذف به بعيداً في اتجاه جاجا فأخطأه وأصاب الأرفف الزجاجية للخزانة التي اعتادت ماما تلميعها، وحطم الرف العلوي بما يحتويه من تماثيل صغيرة وردية اللون مصنوعة من قطع السيراميك بحجم أصبع اليد لراقصات باليه في مختلف أوضاع الرقص. تناثرت قطع السيراميك على الأرضية الصلدة قبل أن يهبط الكتاب المقدس ويحط على بعض قطع السيراميك المتناثرة هنا وهناك.
بينما كان بابا يتمايل في خطواته من اتجاه إلى آخر، لم يتحرك جاجا، ووقفتُ أنا بالقرب من الباب أرقب ما يجري. كانت مروحة السقف المثبت بها مصابيح كهربائية مستمرة في دورانها، الذي يصدر عنه صوت أجش. جاءتْ ماما في خف مطاطي يحدث صوت فرقعة مع كل خطوة تخطوها على الأرضية الرخامية. كانت قد غيرت الإزار المزين بالترتر والبلوزة ذات الأكمام الواسعة، بعد عودتها من قداس الأحد، وارتدت إزاراً آخر وقميص تي شيرت أبيض طُبع على نسيجه في منطقة الصدر المتهدل عبارة "الله محبة"، وهو القميص الذي أُهدي إليها في إحدى المناسبات الدينية التي حضرتها برفقة بابا. حدَّقتْ النظر في القطع المتناثرة للتماثيل المكسورة على الأرضية، ثم انحنت وبدأت في التقاطها بأصابع يديها العاريتين.
لم يقطع الصمت سوى طنين مروحة السقف التي لم تحرك أي ساكن للهواء بغرفة الطعام بحوائطها البيضاء التي حال لونها، وإطارات الصور الفوتوغرافية للجدّ المعلقة، وطاولة الطعام التي أكاد أراها تندفع نحوي وتطبق على أنفاسي.
- اذهبي وغيّري ملابسك
فاجأتني ماما بكلماتها الهادئة خفيضة الصوت بلغة الإجبو.. ودون أن تتوقف لتلتقط نفساً، وجهتْ حديثها إلى بابا "الشاي يبرد"، وإلى جاجا "تعال ساعدني".
جلس بابا إلى الطاولة واحتسى شايه من طقم شاي خزفي من صنع الصين، يتألف من إبريق وسكرية وأكواب على حوافها رسومات زهور قرنفلية اللون. انتظرتُ منه أن يطلب مني أنا وجاجا أن نحتسي رشفة من كوب الشاي، كما كان يفعل دائماً، تلك الرشفة التي أسماها "رشفة الحب"، لأنك تشارك الناس الذين تحبهم في أشياء صغيرة تحبها. يقول بابا "خذ رشفة الحب"، وعادة ما يحتسيها جاجا أولاً، ثم يأتي دوري، فأمسك بالكوب بكلتا يدي وأرفعه إلى شفتي، وأحسو رشفة شاي يكون في العادة ساخناً جداً، ودائماً تلسع سخونة الشاي لساني، لسعة أتضرر منها إذا تناولتُ طعاماً به بعض التوابل الحريفة. كنت أعلم أنه إذا ما لسعتْ رشفة الحب لساني، فإنها ستشعل في المقابل من حب بابا لي، لكنه قبل أن يرفع كوب الشاي إلى شفتيه، لم يقل "تناولي رشفة الحب" ولا أي شيء آخر.
انحنى جاجا بجانب ماما، وفرد صفحات النشرة الدورية التي تصدرها الكنيسة، وبدأ يجمع بداخلها قطع السيراميك المكسورة، وقال: انتبهي ماما حتى لا تجرحي أصابعك.
جذبتُ بشدة وشاح الكنيسة الأسود الذي أتلفع به، لكي أتأكد أنني لم أكن أحلم.. لماذا إذن جاجا وماما يتصرفان وكأنهما لا يعلمان ما الذي حدث تواً؟.. ولماذا يحتسي بابا شايه بهدوء وكأن جاجا التزم الصمت ولم يراجعه فيما قال؟.. استدرتُ ببطء وصعدت الدرج لأغيّر ثوب يوم الأحد الأحمر بآخر.
جلستُ بجانب نافذة حجرة نومي بعد أن بدَّلتُ ملابسي. كانت شجرة الكاجو قريبة جداً إلى حد أنني أستطيع لمس أوراقها وثمارها الصفراء الشبيهة بأجراس صغيرة تتدلى في تكاسل جاذبة إليها أزيز النحل الذي يرتطم بنافذتي. أصختُ السمع إلى بابا وهو يصعد الدرج إلى غرفته ليأخذ قسطاً من نوم قيلولة الظهيرة. أغلقتُ عينيّ ولذت بالسكون في انتظار استدعائه جاجا وذهابه إلى غرفته. لكن بعد دقائق من الصمت، فتحت عينيّ وأسندت جبيني على العوارض الخشبية المنحنية للنافذة لكي أنظر إلى الخارج.
كان فناء منزلنا فسيحاً يتسع لرقصة جماعية يؤديها مائة شخص، ويفسح المجال لكل راقص لكي يقوم بحركة بهلوانية في الهواء ويقلب فيها عقبيه فوق رأسه ثم يهبط على أكتاف الراقص إلى جواره. جدران المجمع السكني الذي تعلوه أسلاك كهربائية ملتفة ترتفع عالياً إلى حد لا يمكِّنني من رؤية السيارات التي تأتي إلى شارعنا وتذهب.
حلّ مبكراً فصل الأمطار، وسرعان ما نشرت زهور أشجار الفرانجيباني المزروعة بموازاة الجدران عبيرها الواهن في كل أرجاء الفناء المزين بصف من تعريشة نبات أرجواني هذبت واستوت كطاولة طعام تفصل بين الشجر المحاذي للجدران ومدخل الفناء. بالقرب من المنزل تزهو شجيرات الكركديه الأرجوانية ذات الأغصان الكثيفة الخفيضة، التي تعانق بعضها البعض.
كانت براعم شجيرات الكركديه الأرجوانية قد بدأت تبزغ وتتفتح على نحو متسارع، حتى إن ماما من وقت لآخر تقطف زه
ورها الحمراء لتزين بها مذبح الكنيسة، وفي أحيان كثيرة يعمد زائرون من بينهم رفيقات ماما في الصلاة بالكنيسة، أثناء سيرهم إلى موقف سياراتهم، إلى قطف زهور الكركديه الأرجوانية. وفي مجلسي إلى جوار نافذتي رأيت امرأة منهن تثبت زهرة خلف أذنها، ورأيت من قبل موظفين حكوميين ير
تديان جاكت أسود اللون، ينتزعان الزهور بعنف قبل مغادرتهم بالشاحنة الصغيرة التي تحمل لوحة معدنية عليها أرقام حكومية، والتي لم تنتظر طويلاً بجانب شجيرات الكركديه
الأرجوانية.
في وقت لاحق أخبرني جاجا أن سبب قدوم الموظفين الحكوميين هو تقديم رشوة إلى بابا، وأنه سمعهما يقولان له إن شاحنتهما ممتلئة بالدولارات الأمريكية. لم أكن متأكدة من صحة ما سمعه جاجا، لكنني فكرتُ في قوله لبعض الوقت، وتخيلت امتلاء الشاحنة برزم كثيرة من النقد الأجنبي رصت في كراتين عديدة، أو في كرتونة ضخمة في حجم ثلاجتنا بالمنزل.
كنا لانزال بجانب النافذة عندما أتت ماما إلى حجرتي. في كل يوم أحد، وقبل الغداء، في الفترة ما بين طلبها من سيسي وضع قليل من زيت النخيل في الحساء وقدر أقل من الكاري في مخلوط الأرز وجوز الهند، وبين أخذ بابا إغفاءة القيلولة، كانت ماما تقوم بتمشيط شعري. تجلس ماما على مقعد بمسندين بالقرب من باب المطبخ، وأجلس أنا على الأرضية ورأسي مثبت بين فخذيها، وبينما تقوم بتمشيط شعري وتضفيره، لا تخطئ أنفي رائحة الحساء والكاري، برغم وجود تيار هواء قادم من نافذة المطبخ المفتوحة دائماً، والرائحة النفاذة للزيت الذي تمتصه جدائل شعري القريبة من أنفي.