القاهرة 27 اكتوبر 2014 الساعة 02:54 م
كان الأمل ــ أو كان الظن ــ بعد ثورة 25 يناير 2011 أن هناك ملامح عصر مختلف لاحت بوادره .. مرحلة مختلفة برجالها ودوافعها .. لكن ما حدث أن هذه المرحلة تعثرت منذ البدايات ، ثم تجمدت ، ثم إنحرفت إلى إتجاه معاكس ، كان المجهول فيها أكثر من المعلوم .. ولذلك كان البحث في أعماق الحوادث يحتاج إلى تجرد وحياد ، وذلك قد يتوافر لمؤرخ ، لكنه يصعب إنسانيا أن يتوافر لصحفي ، وصحفي له موقف من " جماعة " كان تاريخها لايطمئن ، وكانوا على عداء مع جميع أشكال السلطة في مصر وفي كل العصور ، فضلا عن أن العمل السري تحت الأرض سنوات طويلة يجعل من أصحابه ( فصيلا ) من الأهل والعشيرة مستقلا عن الآخرين ، والإحتماء غالبا بلعبة الظل .. كما كان لدّى هواجس قلق ، وظنون مسبقة ، من شواهد التوظيف " الأمريكي ــ الغربي " للإسلاميين ، وقد بدأ في زمن مبكر منذ منتصف الأربعينيات ــ تقريبا ــ وكان التاريخ القريب يضع كتيبة من علامات التعجب والإستفهام حول " جماعة " خرج منهم الفوج بعد الفوج ، من الجماعة الإسلامية ، إلى الجهاد ، إلى طالبان ، إلى القاعدة ، وإلى جماعات أخرى شطحت بها السبل ، فإذا هي تظهر في صور الجهاد الإسلامي في أفغانستان ، وفي القاعدة ، وفي قاعدة السودان ، وقاعدة المغرب العربي ، وقاعدة بلاد الرافدين ، وفي قاعدة اليمن وغيرها !!
وللإنصاف ، فإنني إستندت إلى حقيقة أن أى إنسان لايستطيع أن يصف غير ما يرى ، وقد رأيت وعايشت وشاركت عن قرب ، وكان إحتكاكي بالأحداث مباشرة غالبا ، أو من موقع المراقب عن قرب حينا آخر .. وهذه رؤيه أكتبها بحق التاريخ وحده :
• لقد فوجىء " الإخوان " بالحركة المتسارعة والمتدافعة لثورة الخامس والعشرين من يناير ، والتي لم يكونوا قد لحقوا بها عند البداية ، بل أنهم تحفظوا عليها بسياسة " محظور الإصطدام " بسلطة الدولة .. وفجأة هرولوا إلى الميدان عندما بدا لهم أن نظام مبارك يتهاوى ، ولكي نعطى جماعة الإخوان حقهم ، فقد كانوا عنصرا ضمن عناصر من شارك في الثورة ، وكانوا هم العنصر الوحيد المنظم ، وهو أمر طبيعي " كتنظيم " له ضوابطه وتشكيلاته الملتزمة بالسمع والطاعة ، فاستغلوا الفراغ الناشىء في حالة ثورية دون قيادة ، فدخلوا وقد تصوروا ومعهم بقية أطراف التيار الإسلامي أنهم عماد الثورة ، بل وأصحابها .. والصحيح أن فكرة الثورة ، وكذلك مرجعيتها ، لم تكن دينية ، ولم يقع الحدث الأكبر تحت أعلام الإسلاميين ، ولاإستجابة لشعاراتهم ، وإنما كانت فكرة الثورة : إجتماعية ، إقتصادية ، وثقافية ، وكذلك مرجعيتها ، فالإيمان بالله في قلوب الناس على إختلاف أديانهم .. ثم إنفتح المجال واسعا أمام التيار الإسلامي ، بسبب سوء الفهم الذي وقع بين شباب الثورة ، والمجلس العسكري الحاكم ، والخلاف بين الطرفين عطل كليهما ، وفتح فجوة واسعة تدفق منها التيار الإسلامي !!
• ثم أن الأجواء التي أحاطت بالثورة ــ وفي الشهور التالية بعد الخامس والعشرين من يناير ــ كانت تعطى إنطباعا بأن ماحدث ليس ثورة كاملة ، ولكنها مقدمات لثورة تمثلت في إسقاط الحواجز ، وإزاحة رأس النظام ، وكان لابد من تحويل مقدمات الثورة التي أطاحت برؤوس النظام الحاكم ، إلى عمل ثوري حقيقي ( فعل ثوري ) يوضع له جدول أعمال واضح ومنظم ، ولكن لم يحدث ، وبدأت مرحلة ترتيب الإنتقال في غياب شباب يحمل روح الثورة !! ولم تجد جماهير الثورة تعبيرا سياسيا عنها يستطيع أن يتحدث من موضع ثقة ..
• وكان هناك سوء فهم لطبيعة المرحلة الإنتقالية .. سوء فهم مطالبها ، وسوء فهم إدارتها ، ثم سوء فهم تصرف الأطراف فيها، والذين لم يقدّروا أن المهمة في هذه المرحلة هي إعادة بناء الدولة ، ولذلك لم تعد هذه المرحلة ( مهمة واجبة ) وإنما أصبحت فرصة متاحة لمن يسبق ــ حسب تعبير أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل ــ سباق مفتوح إلى السلطة .. وكانت المرحلة الإنتقالية أقرب إلى " الإرتجالية " .. ولم يكن مفهوما ، أو لماذا وما هي الأسباب التي دفعت المجلس العسكري الحاكم إلى فتح الأبواب والنوافذ أمام عودة العشرات من العناصر الإسلامية الهاربة إلى باكستان وأفغانستان وإيران والصومال ، والصادرة بشأنهم أحكاما غيابية ، بالعودة إلى مصر ، وقد سبق تلك الخطوة فتح السجون أمام آخرين بالعفو ، وأحاطت ببعضهم هالات إعلامية وكأنهم من "أبطال " الوطن !! كان الأمر غريبا، ومثيرا للشكوك والظنون ، لماذا فعلها المجلس العسكري وقتئذ ؟! هل بفعل الضغوط ، أم بأحكام الصفقات ، أم كانت رؤية قاصرة لم تستوعب الدروس والتجارب السابقة ؟!!
• ثم إنزلقت الثورة بالكامل إلى حضن " الإخوان " ومن معهم من التيار الإسلامي ، والحاصل أن " الإخوان " لم يكونوا مهيئين للمسؤلية ، وقد تصرفوا فيما بعد بمقدار مافهموا ، وركزوا جميعا على السلطة ، في حين أن الدولة نفسها كان يجب أن تكون موضع التركيز .. ومن هنا تداعت الأخطاء ، وكل ما جرى بعد ذلك كان مهينا لهذا البلد ولتاريخه ولمستقبله .. ومن هنا تداعت الأخطاء والمآزق !!
ومجموعة الأحاديث في الصفحات التالية ، وبتسلسلها الزمنى ، مجرد محاولة كانت ترصد وتحلل ، وأأمل أن تكون محاولة موفقة للتشخيص ، والإقتراب من ملامح الصورة خلال تلك الفترة الهامة والمصيرية من تاريخ مصر ، بعد الثورة الأولى في الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى فيما بعد الثورة الكبرى الثانية في الثلاثين من يونيو 2013
حالة إرتباك أمام الحقيقة !!
هذه السطور كانت تتابع وتلاحق الأحداث يوما بعد يوم .. تتابع وترصد
وتحاول أن تحلل أو أن تقرأ تضاريس الأحوال الجارية ، والأمور التي
تجرى بالتدافع والتزاحم ، وتجرى بالشكوك أكثر مما تجرى بالمنطق ..
بعد ثورة 25 يناير ، وصولا إلى ثورة 30 يونيو.. وما بعدها.
...
حالة إرتباك أمام الحقيقة بشكل مذهل !!
فتحي
الفصل الأول
من دفتر أحوال مصر بعد 25 يناير 2011
إنفجرت التساؤلات الحائرة حول ما يجرى ويحدث في مصر بعد الثورة
، وفي لحظة شديدة الخطورة وشديدة التأثير في المستقبل ، وقد تعرض
ربيع الثورة لموجات من رياح الخماسين بعواصفها ، ورمالها، وترابها،
وعتمة الليل عند الظهر أثناءها ، وهي ظاهرة موعدها الربيع أيضا ، وهي
ظاهرة واجهت ثورات كثيرة ..
محمد حسنين هيكل
الإنفجار العظيم .. العودة إلى المستقبل
مع بدايات تصدع نظام مبارك وقبل أن يتهاوى أمام لحظة مبهرة
تجسد حلم العودة إلى المستقبل ، كان سارقوا الفرح من " بهلونات
السيرك السياسي في مصر " يتحدثون عن التعديل وليس التغيير ،
والخروج الآمن من الأزمة ، وكأن الحدث الأكبر في تاريخ مصر
مجرد حركات إحتجاجية وليست ثورة شعبية !!
فبراير 2011
صحيح نحن أمام نظام فقد شرعيته ولا يريد أن يرحل ، ويحاول بمخزون من الدهاء والحيلة والمراوغة والخبث ، أن يحاصر شرعية الثورة الشعبية ، بالباطل والإلهاء السياسي .. وأتصور أنها مجرد محاولة للتشبث بالنفس الأخير ، أو كما يقولون " حلاوة روح " من نظام إنتهى وقته الأصلي منذ سنوات ، وتعلق بالوقت الإضافي ، ويتمسك الآن بالوقت الضائع ، في محاولة لقمع الحلم المقدس الذي بدت ملامحه تداعب خيالاتنا .. نحن أمام لحظة مبهرة ، يكتب فيها شباب مصر ، التاريخ الحىّ الذي يجرى أمامنا ، ويسجل غروب نظام منزوع الشرعية ، وشروق شرعية جديدة في مصر تجسد حلم العودة إلى المستقبل ، وبعد سنوات طويلة شهدت عدوانا نفسيا على الشعب المصري ، بإغتصاب حقوقه في الإختيار بين الرفض والقبول ، وأن عليه الإذعان للواقع ، وطاعة أولى الأمر قهرا ، وما تراه الطبقة التي تمسك بالسطة والثروة معا ، وتدير أسوأ وأخطر ما يمكن تصوره من عمليات النهب والسرقة ، وبيع أصول وطن يعيش أبناءه تحت سطوة القمع والفقر والبطالة ، ويستجدي حقوقه المشروعة في الحياة ، وفي زمن لا يعرف إلا منافذ الوساطة والمحسوبية ، وقد أهدرت تماما العدالة الإجتماعية ، وتوحشت ممارسات الفساد في حضن السلطة !!
ما قبل 25 يناير 2011 كان لايبعث على الأمل والتفاؤل ، ويوحى بأن الحال لن يتغير ، ولاسبيل لإزاحة النظام .. بل كان وضع الأنظمة العربية غريبا ، حافظ الأسد ــ في سوريا مثلا ــ مكث 40 عاما في سدة الحكم ، والقذافي في ليبيا 40 عاما ، ومبارك في مصر 30 عاما ، وزين العابدين في تونس 23 عاما ، وفي ظل هذا الشكل الثابت لم يكن ممكنا أن يأمل أحد في العالم العربي في التغيير ، وكأن الشعب العربي قد تعود على هذا كأسلوب حياة !! وفي حين كانت الأوضاع الداخلية في مصر تنذر بقرب الإنفجار ، ولم يعد بالإمكان إستمرارها ، لأن ما حدث كان عبارة عن تناقضات إجتماعية وسياسية وفكرية .. وفي السنوات الأخيرة من نظام مبارك ــ وتحديدا فيما بعد عام 2004 ــ كان القول الغالب في مصر ، أن البلد تقف على أبواب أزمة خطيرة لابد من تداركها ، وإلا فإنها ستؤدي إلى عواقب وخيمة ، وأن مصر مقبلة على توترات ، إذا لم نعالج أسبابها بيقظة ، فإنها قد تصل إلى ما هو أكثر من توترات ، وأن أبعد الإحتمالات عن التصور هي أقربها إلى الوقوع ، لأن أسوأ ما يمكن أن يواجه مجتمعا هو أن يجد أمامه ظروفا قاسية ، ولايجد أمامه إلا خيارا واحدا ، إلا طريقا واحدا للتصرف لابديل له ، وأن معظم المشاهد العنيفة في دول عديدة تحركت لمثل هذه الأسباب !!
وللإنصاف ــ وبحق الشهادة للتاريخ ــ لم يكن أحد في مصر يتوقع أن تتحول المشاهد العنيفة المتوقعة ، إلى حالة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث ، إلى الإنفجار العظيم بثورة شعبية سلمية تدفع أمامها بشرعية الملايين ، وبمشروعية ما تطالب به ، وأن تتحرك بقوة العاصفة الشعبية إلى آفاق المستقبل الذي نحلم به .. وكان الحلم بعيدا جدا !! كان الحلم بعيدا .. ولكن كانت هناك أصوات قد إرتفعت داخل جلسة إستماع بمجلس الشورى في خريف 2005 تحذر بأننا نعيش في زمن الشك ، وفقدان الثقة تماما في الإصلاحات السياسية التي يعلن عنها ، وأن ما يتم تنفيذه لايعدو كونه مجرد "ديكور " ومحاولات تجميل ، وأن إغفال جانب العدالة الإجتماعية من شأنه فتح المجال أمام إنفلات سطوة وسلطان رأس المال التموحش و " المستغل " وإهدار حقوق الفقراء ، وقد يؤدي إلى ثورة إحتجاج تفتح الأبواب أمام " ثورة جياع " ، خاصة وأن ساكني القصور لايعرفون أحوال ساكنى القبور ، وأن المارد الشعبي قد يخرج من القمقم ، وفي هذه الحالة لن تجدى سياسة اللجوء للقبضة الحديدية ــ والتعبير كان على لسان المفكر و الفقيه الدستورى الدكتور أحمد كمال أبو المجد ، عضو مجلس الشورى وقتئذ ــ ولكن ماحدث يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 كان خارج كل التوقعات .. صحيح أن المارد الشعبي خرج من القمقم .. ولكن لم يتوقع أحد أن يكون شباب مصر هم الطلائع التي تقود حركة الجماهير ، بعد أن فجروا ثورتهم دون استجداء قوى سياسية منظمة " معارضة " عجزت عن رؤية ضرورات التغيير الشامل ، خاصة وأن هذه القوى ــ غالبيتها على الأقل ــ كانت قد انكسرت أمام النظام الحاكم في لعبة الصفقات والمصالح الشخصية الضيقة ، وتلهث وراء فتات ما تجود به السلطة عليهم !! ولم يتحرك الشباب في ميادين وشوارع الثورة ، على هدى شعارات أيديولوجية حزبية ، ولا تحت تأثير كلمات نشطاء سياسيين ، ولاحتى بمساندة منظمات المجتمع المدنى ، كان واضحا أن لديهم وعيا بمصالح الدكاكين السياسية ، ولذلك كان تحركهم ذاتيا وبحيوية دماء الشباب ، والخوف على مستقبلهم ، وكانت لديهم القدرة على تحريك الشعب المصري على مسار ثورتهم ، وإستعادة روح مصر الوطنية الجامعة ..
الثورة بدأت تفرض أحكامها وشروطها ، وتواصل زحفها في نفس الوقت ، والنظام بدأ يتراجع ، ثم يتهاوى .. وصحيح أن أسوأ ما في مصر ، من تحالف السلطة والمال والأمن ، من بقايا نظام مشروخ ومجروح وفاقد للشرعية ، يحاول بشراسة ودفاعا عن بقايا نفوذ وسلطة ، أن يجهض ثورة الشباب الشعبية .. ولكن الأسوأ والأخطر في اللحظة الراهنة ، هم " بهلونات السيرك " داخل الدكاكين الحزبية والتيارات السياسية ، من سارقى الفرح ، والذين يجيدون اللعب على الحبال ، ويبحثون الآن عن التعديل المتاح ، وليس التغيير الشامل المطلوب شعبيا ، ويتحدثون عن مخرج آمن من الأزمة ، وكأن ما يجرى من مشاهد الحدث الأكبر في تاريخ مصر الحديث ، مجرد فعل عشوائي غاضب !! هم يتحدثون الآن عن ضرورات وأهمية الحوار مع النظام ( نظام تطالب جماهير الثورة برحيله !! ) ويقولون أنهم يخشون الفراغ السياسي والدستوري !! والواضح أنهم يجهلون حتى هذه اللحظة أن هناك ثورة شعبية ، وأن للثورة شرعيتها ، وأن الملايين من جماهير الثورة داخل الميادين والشوارع تتمسك بمطالبها المشروعة .. ثم أى فراغ يتحدثون عنه ؟ وأى حل للأزمة كما يقولون بتعديل دستور مهلهل سوف يتم عرضه على برلمان باطل بالتزوير ؟! وكيف يمكن تعديل الدستور الحالي في ظل إفتقاد النظام الحاكم للشرعية الشعبية ، وبطلان إنعقاد مجلس الشعب بسبب الأحكام القضائية الصادرة ضد عشرات من أعضائه ؟! وسارقو الفرح من " بهلونات السيرك السياسي " في مصر ، ربما يجهلون أيضا أن ثورة 23 يوليو 1952 والتي خلعت في يومين ، ملكا يملك ويحكم ، وجمدتّ أحزابا سياسية كبرى كان لها دور وتأثير داخل الساحة السياسية ، ومع ذلك لم يحدث فراغ سياسي ، ولا فراغ دستوري ، بعد تشكيل حكومة تدير شئون البلاد ، وتعطيل دستور 1923 وإستحداث دستورا مؤقتا من 14 مادة ـ ظل ساريا لمدة عامين حتى تم إعداد الدستور الجديد عام 1956
ونقف مع اليوم الثاني عشر من الثورة .. أمام أصوات تطالب بما لم تطالب به الثورة ، وترى ما يرفضه الثوار ، ولاتزال تصوراتهم أن ما يحدث ويجرى مجرد تحركات إحتجاجية .. ولم يستوعبوا حتى الآن ــ وهي نفس نظرة النظام الحاكم وحزبه ــ أن هذه لحظة تاريخية تستعيد معها مصر شبابها وعافيتها ، وهي لحظة لابد أن نتوقف عندها طويلا ، ونتأمل أشياء كثيرة لها معنى في حياة الأمم العظيمة ، وهي في مجملها تتجسد في " مشهد " سيظل عالقا في ذاكر الأمة ، وداخل المشهد شباب مصر ، أصحاب الفضل أولا في عودة الروح إلى وطن أراد له البعض بأن تظل أحواله راكدة .. شباب في مواجه نظام إرتجف رعبا من رسائل الهواتف المحمولة ، فأغلقها بالأمر المباشر يومان قبل أن يتدخل الرئيس الأمريكي " أوباما " لإعادة عمل شبكات المحمول !! وإهتز النظام أمام شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي ، فأصدر أمرا آخر بالإغلاق وعاشت مصر خارج زمن تكنولوجيا الإتصالات خشية إنتصار حركة الشباب !!
وقيل أنها ثورة الكترونية أتخذت من الـ " فيس بوك " وسيلة للتعبير ، وهذا هو إبداعها ، وآخر إحصائية تقول أن 70 % من مستخدمى الإنترنت هم من أعمار تتراوح ما بين 15 و 21 عاما ، وحسب التقرير العربي للتنمية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي ، بشأن دور المدونين والنشطاء الإلكترونيين ، فإن هناك 490 ألف مدونة عربية ، منها 162 ألف مدونة في مصر وبنسبة 31 % من مجموع المدونات العربية .. وفي المقابل ، رؤية أخرى تحمل في طياتها شكوكا كبيرة ، من أطراف حقوقية ينتسب بعضها إلى مؤسسات المجتمع المدنى ، وتتفق رؤيتها مع الأجهزة الأمنية التي كانت ترصد تحركات نشطاء من الشباب ، في سفرياتهم خارج مصر ، وقيل أنهم تلقوا تدريبات منذ عام 2008 وهناك تقرير آخر يشير إلى تاريخ 2005 ، بواسطة مؤسسات أجنبية " للتحولات الديمقراطية " تلعب دورا إستخباراتيا ، وأن هذه المؤسسات لها علاقة بـ " بيت الحرية الأمريكي " ومؤسسة " فريدوم هاوس " وأن هذه المنظمات تتولى : ( التدريب في مجال استراتيجيات العمل السلمى ، وإدارة المعرفة في المنطقة العربية لتطوير مهارات قادة المجتمع المدني الشبان والناشطين بالمنطقة العربية في مجال استعمال تقنيات التحرك المدني ، بالتدريب على تقنية استعمال الـ " فيس بوك ، وتويتر " وغيرهما من الوسائل الإلكترونية الفعالة ، لتوظيفها في القيام بالتحركات ضد أنظمة الحكم التي يراد الإطاحة بها ) وأن هذا الدور لعبته " فريدوم هاوس " في تحريك العديد من الثورات بالعالم ، ومنها الثورات الملونة ، كالثورة الوردية الجورجية سنة 2003 حيث اعتمدت منظمة فريدوم هاوس على شباب حركة " كمارا " الذين تلقوا تدريبات على " الحشد " كما ساهمت المنظمة في إسقاط نظام " سلوبودان ميلوسوفيتش " سنة 2000 في صربيا ، عن طريق الإعتماد على حركة " أتبور " التي تلقى أعضاؤها تدريبات على " حشد الجماهير " ، كما ساهمت المنظمة في الثورة البرتقالية الأوكرانية 2004 وبالإعتماد على شباب تلقوا أيضا دورات في " الحشد " عبر وسائل الكترونية ، وأن هذا المخطط يعتمد على تدريب " كل ثوري " الذي عليه أن يحاول ضم خمسمائة عضو في شكل خلايا عنقودية عبر المنتديات الإجتماعية !!
والحديث السابق ــ حسب رؤية أصحابه ــ عن مجموعة من الشباب ، وليس بالطبع ملايين الشباب ، وقد تكون تلك المجموعة قد طالبت بالحشد الجماهيري يوم الثلاثاء 25 يناير ، ولكن ملايين الشباب من أبناء مصر ، كانوا هم الطلائع التي فجرت الزناد وإلتحمت معهم ملايين أخرى من جماهير الشعب المصري ، وفي ساعة كانت خارج حدود الزمن المتوقع ، ثم قفزت فوق الحواجز ، لتضعنا أمام ثورة الغضب ، وأسباب ومسببات الغضب لا حصر لها ، وكانت تضغط بقسوة على صدور غالبية الشعب الصامت ، وإن كان صمته مسموعا ..
والشباب الذي تحرك بجسارة ، وتحدى القهر بشجاعة ، لم يكن قيادة للثورة ، وإنما كان مفجرا لها ، ودوره الكبير أنه إستطاع إطلاق طاقة الجماهير الواسعة المتمثلة في الملايين ــ أكثر من عشرين مليونا من المصريين ، رجالا ونساء وشبابا من الجنسين ــ خرجوا في طلب التغيير ، ومع غياب تام لدور النخب السياسية حاملة الأفكار والرؤى في مجتمعاتها ، لأن النخب السياسية في مصر كانت تعيش أزمة مصداقية قول ، وتأثير ، وتوجه !!
بشكل ما كانت هناك شكوك .. وهذا الإنفجار الذي حدث هو " حالة ثورية " فريدة تبحث عن منفذ ، فهناك أسباب عملية لقيام الثورة ، لكن ليس هناك قيادة لهذه الثورة التي إنفجرت من حيث لم يتوقع أحد ..
وليس غريبا بالطبع أن تكون هناك عناصر وقوى في حالة إنكشاف كامل ، رغم أنها تلعب في الخفاء ، وهي تحاول الدفاع عما كان قائما وتستفيد منه ، وتتوهم أنها تستطيع إعتراض حركة المتغيرات ، وإجهاد بدايات الثورة ، وإجهاض أحلامها وآمالها ، وهي قوى ترفض الإعتراف بصدمة سقوط ثلاثين عاما من النفوذ والإمتيازات والسرقات ، وأن تسبح في مستنقع الفساد كما يحلو لها ، وهم بالطبع من رجال نظام بدأ يتهاوى ، وعناصر ومنتسبي حزبه الذي كان حاكما ومتسلطا ومسيطرا على مقدرات حياتنا ، وصانعا لطبقة " المماليك الجدد " في الزمن المصري المعاصر .. وهؤلاء تدفعهم أوهام أن ما كان لابد أن يعود !!
وقد تكون التساؤلات القائمة الآن ، وتفرض نفسها على مشهد الغضب الشعبي : إلى أين ؟ ومتى ؟ وماذا بعد ثورة الغضب ؟ وما هي الإحتمالات القائمة ، والتغييرات المتوقعة ؟ وكل هذه التساؤلات تحتاج إلى إجابة واضحة ، فكل طريق له بداية ونهاية .. ولكن ما يهمنا في تلك اللحظة المشحونة باعتبارات متشابكة ، أننا أمام مشهد لابد أن نعيد قراءته كثيرا وطويلا ، ونتأمل تحركاته جيدا ، في أيام مفصلية من تاريخ مصر .. إنفجرت الثورة من حيث لم يتوقع أحد ، وحارت كل القوى في عملية التوصيف ، خاصة أن أى ثورة في التاريخ كان فيها الفكر والقيادة ، ولأن ثورة 25 يناير كانت جديدة ، ومفاجئة ، وكل الأطراف احتاروا في توصيفها ، واتخاذ موقف منها ، أصبحت التساؤلات القائمة الآن تحمل قدرا كبيرا من الحيرة نفسها : إلى أين ؟ ومتى ؟ وماذا بعد ثورة الغضب الشعبي ؟! وإن كانت الإجابة قد سبق الإعلان عنها مع الحشود الشعبية : لن تنازل عن الحلم الذي خرجدنا من أجله ..