القاهرة 11 اكتوبر 2014 الساعة 04:53 م
القصة التي يتابع فصولها العالم في اللحظة الجارية، وتشغل تفكير شعوب إقليمنا العربي، ليست فقط "داعش" البديل الحصري لـ "القاعدة"، هذه ليست كل القصة ولكنه ما يبدو للرائين منها، وفي لحظة من التاريخ العربي مشحونة بالخطر ومعبأة بالقلق !!
والقصة فيها من المجهول أكثر من المعلوم، فهناك ترتيبات تجرى ولا تشغل تفكيرنا، أو نحن غير قادرين على فهمها، وإذا فهمنا لا نصدق، وإذا صدقنا نخاف مما صدقناه ونهرب منه !! ولنبدأ من الواقع، وهو وحده نقطة البداية الصحيحة لأي استكشاف بعده :
• أولا .. مازلت عاجزا عن فهم ما جرى وما يجري، أقلّبة على كل وجه فلا أجد فيه ما يقنع، ولا أجد هناك ما يطمئن .. هل يعقل أن يتم حشد تحالف دولي يضم أكثر من 30 دولة توفر دعما ماليا، أو لوجستيا، أو استخباريا، أو قوات جوية، أو تجهيز قوات مساندة على الأرض، وفي مواجهة تنظيم مسلح لم يتعد عمره ثماني سنوات فقط ( منذ آواخر عام 2006 ) ولم يتجاوز عدد مقاتليه 20 ألفا أو 30 ألف على أكثر تقدير، حسب رصد أجهزة الاستخبارات الغربية والعربية !!
جيوش من العالم المتمدين تساندها جيوشا من العالم النامي "عربيا وإقليميا" تواجه عناصر مسلحة لا تنتمي لدولة بقدر الإنتماء لفكر تنظيم "إفتراضي" !! ولأول مرة في التاريخ، يطل العالم بأسره على مشهد إستنفار دولي، يدفع أمامه بتحالف قوى كبرى، ودول ثروة، في مواجهة مجموعة عناصر مسلحة متفرقة في منطقة شبه مكشوفة من الشمال الغربي للعراق الى الشمال الشرفي لسوريا، وهي ساحة فيها من يعرف كيف يتوضأ بالدم، لكن ليس فيها من يعرف كيف يصلي صلاة الجماعة، على حد تصوير شاعر فارسي قديم !!
• ثانيا .. لا نتحدث عن المفاجئ وغير المنتظر في حكاية داعش ومن معه، وإنما نتحدث في الواقع عما خفى علينا أمره، أو فاتنا في أوانه رصد مقدماته، وتعقب مداخله !! وفي قصة "داعش " فإن المقدمات طويلة ومعقدة، وهي تبدأ بالظروف التي برز فيها توظيف الإسلام منذ بدايات الحرب العالمية الأولى، ثم بدأت حركة استخدام أدوات "إسلامجية" مع مطلع الأربعينيات من القرن الماضي .. والطريف أن قصة التوظيف الغربي للإسلام بدأت ضد دولة الإسلام "دولة الخلافة " وأمامنا محاضر جلسات مجلس الوزراء البريطاني في يوم 25 / 11 / 1914 وعلى مدار ثلاث جلسات، وأعرب "كتشنر" وزير الدفاع في الحرب العالمية الأولى، عن خشيته من استخدام الجيش البريطاني للجنود الهنود المسلمين في الحرب ضد تركيا، إلا إذا صدرت فتوى إسلامية يتولي أمرها زعماء وأمراء القبائل العربية، تبيح القتال ضد من يقف مع الألمان ومحور الشر، وكان لدى بريطانيا وحدة في الجيش من الهنود والبنغال المسلمين، وصدرت الفتوى بالفعل !! ومنذ منتصف الأربعينيات تواطأت الحكومات البريطانية المختلفة مع القوى الإسلامية الراديكالية !!
وفي كتابه " الشئون السرية " الصادر عام 2010 يقدم الكاتب "مارك كرتيس" عشرات الوثائق التي تقول : إن ساسة بريطانيا يعتبرون الإسلاميين مفيدين من أربعة أوجه، أولها : تقويض التيارات القومية في العالم العربي وجنوب آسيا .. وثانيها : إستخدامهم كـ" قوات صاعقة " لزعزعة إستقرار الحكومات المناوئة .. وثالثها : العمل عند الضرورة كقوات عسكرية لخوض حروب نيابة عنها ، كما حدث في أندونسيا في الخمسينيات، وفي أفغانستان في الثمانينيات .. ورابعها : إستخدامهم كأدوات سياسية لإحداث التغييرات من جانب الحكومات المستهدفة، كما حدث في إيران ضد حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953 حين أقدم على تأميم شركات البترول البريطانية !!
ويقول "مارك كرتيس" إن من أهم نقاط التحول في تاريخ الإسلام السياسي، ترحيب ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الشهير، بدعوات بعض الإسلاميين المتشددين بالاستقلال عن الهند ـ والذي كان أمرا غريبا وقتها ـ ولكن " تشرشل " رحب بانفصال باكستان للاحتفاظ بجزء صغير من الهند التي أضطرت بريطانيا للرحيل عنها بعد إستقلالها عام 1947 وحتى لا تخرج بريطانيا من الهند بيد فارغة ـ كما يقولون ـ شجعت تيارات الإسلام المتشدد ورموزه، ومنهم " أبو الأعلى المودودي " صاحب نظرية " الحاكمية لله " التي تبناها لاحقا سيد قطب داخل جماعة الإخوان المسلمين!!
ونظرية "توظيف الإسلاميين" بدت وكأنها ميراث من الإمبراطورية البريطانية التي إنسحبت من المنطقة وسلمتها للولايات المتحدة الأمريكية التي تعلمت الدرس، ووظفت الإسلاميين الجهاديين في أفغانستان لضرب السوفيت، وإذا كان تحالف " الإسلامجية " والأمريكان في أفغانستان قصة معروفة ، فما لا يعرفه كثيرون أن الولايات المتحدة سهلت ودعمت إيفاد كثير من هؤلاء المجاهدين للمشاركة في حروب البلقان، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى، والمناطق الإسلامية في الصين .. وبالطبع ليس من أجل عيون الإسلام ، ولا دفاعا عن المسلمين هناك !!
• وكان درس أفغانستان موحيا، فقد جرى تعاون بين الولايات المتحدة وبين التيار الإسلامي بجبهته العريضة، وكل منهما له أسبابه في الجهاد ضد الإلحاد الشيوعي في أفغانستان !! وخلق التعاون العملي بينهما نوعا من معاودة التفكير السياسي لتوظيف الإسلاميين في مهام أخرى، وحتى انقلب السحرعلى الساحر، بانفلات مجموعة المجهادين العرب، بعيدا عن الرعاية والوصاية الأمريكية، وتم تأسيس تنظيم القاعدة، ولكن ليس بعيدا عن أعين ومتابعة وكالة الاستخبارات الامريكية "وربما خطوة بخطوة" والتي حافظت في نفس الوقت على شفرات التواصل مع التنظيم
الوليد !!
والشاهد ـ فيما أظن ـ أن القاعدة انتهى دورها بعد أن تجاوزت حدودها، وتصورت أن بإمكانها أن تدير "اللعبة" بمفردها، وأن تقطع خيوط الإتصال بأصول المنشأ والفكرة، وبعد أن تمددت وتشعبت "فروعها" خلاياها وعناقيدها، وهو تجاوز غير مسموح به في لعبة الظل التي تديرها الوكالات الاستخباراتية الأمريكية، وقد خشيت أن تفلت الأمور من بين يديها !!
وفي ظل أجواء مشحونة بنيران التوتر، ومزدحمة بالشك، ومعرضة طول الوقت للمفاجآت، تم الإعلان عن تشكيل جماعة التوحيد والجهاد بزعامة أبي مصعب الزرقاوي عام 2004 في بغداد، وتمت مبايعته لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، ليصبح تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وكثف التنظيم من عملياته إلى أن أصبح واحدا من أقوى التنظيمات في الساحة العراقية، وبدأ يبسط نفوذه، ثم خرج الزرقاوي على الملأ في شريط مصور في العام 2006 معلنا عن تشكيل مجلس شورى المجاهدين بزعامة عبد الله رشيد البغدادي، وبعد مقتل الزرقاوي في الشهر عينه، جرى انتخاب أبي حمزة المهاجر زعيما للتنظيم، وفي نهاية السنة، تم الإعلان عن تنظيم دولة العراق الإسلامية بزعامة أبي عمر البغدادي، وفي 19 نيسان / إبريل 2010 قتلت القوات الأمريكية والعراقية أبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر، وبعد عشرة أيام، إنعقد مجلس شورى "دولة العراق الإسلامية" ليختار أبي بكر البغدادي خليفة له، والناصر لدين الله سليمان وزيرا للحرب.
وفي التاسع من نيسان/ ابريل 2011 أي بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من أحداث الانتفاضة السورية وبدء التدخل الأمريكي ـ الغربي الصريح، للحشد ضد النظام السوري والمطالبة برحيله، ظهر تسجيل صوتي منسوب لأبي بكر البغدادي يعلن فيه أن "جبهة النصرة " في سوريا تمثل امتدادا لدولة العراق الإسلامية، وأعلن إلغاء إسمي " جبهة النصرة " و" دولة العراق الإسلامية " لصالح مسمى واحد وهو الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".
ورفضت "جبهة النصرة" الالتحاق بهذا الكيان الجديد، لينشط كل من التنظيمين بشكل منفصل في سوريا، حتى لاتختلط الإمدادات ومصادر التمويل والتسليح بينهما، وخاصة باالنسبة لقنوات الاتصالا المفتوحة مع أجهزة الإستخبارات الغربية والعربية، ومن هنا كان التنافس محموما بين "داعش " و"جبهة النصرة" على حجم الدمار ولهيب النيران ومساحات الحركة المتاحة والتوطين داخل سوريا، وكانت النتيجة لصالح تمدد وانتشار مسلحي داعش!! ويقدر تشارلز ليستر الباحث في مركز "بروكينغز " عدد مقاتلي " داعش " في سوريا ما بين ستة وسبعة آلاف، وفي العراق ما بين خمسة وستة آلاف، ولم يتسن التأكد من هذه الأرقام من مصادر أخرى .
ولعب تنظيم " داعش " دوره في سوريا كما كان مقدرا له، وانفتحت أمامه كل أبواب الدعم والتسليح والإمداد البشري للمشاركة في إزاحة نظام بشار الأسد، ولكن ما حدث مع تنظيم القاعدة، حدث أيضا مع تنظيم داعش، الذي تجاوز الحدود والخطوط المرسومة له، وهو يرى حجم ونوعية السلاح الذي انهال عليه من كل الطرق، وملايين الدولارات من مصادر تمويل متعددة، وأفواج المتطوعين بتأثير الإعلام الغربي وسبقه الإعلام العربي بالطبع، ووقف العالم كله ـ باستثناءات قليلة جدا ـ مع العصابات المسلحة في سوريا ضد النظام الحاكم !!
وأصابت "داعش" أوهام القوة، معتبرا أن إنشاء دولة إسلامية في سوريا مرحلة أولى لقيام دولة الخلافة، ثم وجد الفرصة سانحة في بلاد المنشأ "العراق" وإعلانه مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار "ولاية إسلامية " وتحقق له ما يريد بالسيطرة على الموصل وضواحيها شمالا وشرقا، وتلاحقت الأحداث بعد ذلك يسابق بعضها بعضا، وتقاطعت الخطوط وتصادمت بالطبع مع السيادة والوصاية الأمريكية في بلاد الرافدين، وإلى تلك الدرجة التي تهدد بخلط الأوراق والاحتكاك مباشرة مع السيناريو الأمريكي المعد سلفا للعراق !!
من هنا بدأ الحشد للتحالف الدولي، ولم يقف أحد ليحلل ويدقق بالقدر الكافي في "الواقعة" بما في ذلك دواعيها وأحكامها، وأين وكيف بالضبط ؟!!
.....................