القاهرة 30 سبتمبر 2014 الساعة 11:56 ص
ربما يكون منطقياً اعتبار الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير واحداً من أعظم روائيي القرن التاسع عشر، وحسب المرء أن يقرأ «مدام بوفاري» أو «التربية العاطفية» أو حتى «سالامبو» للتيقّن من هذا. ولكن من المؤكد في المقابل ان فلوبير لم يتمكن من ان يحقّق لنفسه مكانة مميزة ككاتب مسرحي حين حاول ذلك غير مرة. وهو أخفق بالتحديد حين كتب مسرحية «المرشّح» التي حاول فيها ان يخوض لوناً من الكتابة المسرحية كان رائجاً وذا فعالية في فرنسا في ذلك الحين: الكوميديا السياسية. منذ العرض الأول في آذار (مارس) 1874 تبدى فشل المسرحية في اقناع الجمهور، سواء كان جمهور نخبة أو جمهوراً عادياً. وقد استدعى هذا من فلوبير التوقف عن تقديم المسرحية منذ العرض الثاني. ومع هذا نراه لا يسلم من سهام النقد التي راحت تطاوله. وطبعاً لم يكن النقد من النوع الجارح، بالنظر الى مكانة فلوبير في الحياة الأدبية الفرنسية، لكنه كان مع هذا من النوع الصارم الذي من شأنه أن يردع الكاتب عن العودة الى خوض «المغامرة»، خصوصاً انه كان يقارن بين عظمة فلوبير كروائي، وتهافت قدرته على الكتابة للمسرح. ولعل في إمكاننا ان نلخص ذلك النقد بما قيل من أن شخصيات المسرحية تعيش على الخشبة حياة حقيقية واقعية حافلة. ولكن من ذا الذي قال ان واقعية الحياة الروائية تلائم المسرح؟ المسرح بالنسبة الى أولئك النقاد ينبغي ان يحتفل بشيء من الفانتازيا، بمقدار لا بأس به من الخيال... أما أن «نشاهد الشخصيات تسرح وتمرح أمامنا على الخشبة كما تفعل في الحياة الطبيعية فأمر مثير للضجر». ولعل الأقسى في استخدام كلمة «ضجر» بصدد الحديث عن «المرشّح» كانت الكاتبة جورج صاند التي كتبت بعدما شاهدتها في العرض الأول يومذاك: «يبدو الموضوع أكثر واقعية من أن يناسب الخشبة، وهو يحفل بقدر فائض من الحب والواقعية المفرطة. لكن المسرح يحتاج الى قدر من الغشّ. ثم إن هذه المسرحية حين تُقرأ على الورق ستبدو حزينة تفتقر الى اي مرح. وبما ان القارئ، كما حال المتفرج، لن يبدو مهتماً بأي من شخصياتها، كذلك لن يهتم بأي من أحداثها. يا للضجر!». فما هو هذا العمل الذي أثار كل قدر من النفور، ولا سيما لدى أناس كانوا من معجبي أدب فلوبير الروائي من دون قيد أو شرط؟
> منذ البداية يمكننا ان نقول إنها مسرحية من أربعة فصول حاول فيها غوستاف فلوبير أن يدلي بدلوه في المعترك السياسي الفرنسي المباشر في وقت كانت فيه السياسة و «الديموقراطية» البرلمانية شغل الناس الشاغل. كانت فرنسا كلها يومها موزّعة بين الأحزاب السياسية المتناحرة والمتجمعة، بعد سنوات قليلة جداً من هزيمة الكومونة، تحت شعارات يمينية من جهة ويسارية من جهة أخرى. كان الفرز من الحدة بحيث ان ما من فرنسي كان يمكنه الادعاء انه على الحياد وفي إمكانه أن يقف ضد الجميع. أما فلوبير فإنه فعل هذا. كتب وأراد ان يقدم عملاً يقف على الضد من الانقسامات الحادة يرمي فيه الجميع في بؤرة سخريته – التي كان يعتبرها حادة وعلى صواب، معتقداً انه بذلك ينطق باسم غالبية تصورها صامتة أراد هو ان يكون صوتها، فإذا بها تكاد لا توجد -.
> تتحلق «أحداث» المسرحية من حول المدعوّ روسّيلان، التاجر المعتبر الذي بعدما حقق من الثراء ما يكفيه ليعيش في رغد وأمان، وبعدما تقاعد عن العمل، رأى ان في وسعه الآن أن يخوض المعترك السياسي ويرشح نفسه للانتخابات المقبلة نائباً في الجمعية الوطنية... وهو إذ يفعل هذا، سيكتشف بعد حين ان تطلعاته السياسية ستفقده امواله ومكانته وكذلك الحس العائلي الأبوي الذي كان يسيّر علاقاته بعائلته. والعنصران الأساسيان في هذه العائلة هما زوجته الأربعينية الحسناء وابنته الصبية ذات الثمانية عشر ربيعاً، لويز. ولويز هذه مغرمة بالثلاثيني موريل المهندس الديموقراطي المنتمي الى اليسار والذي يبدو واضحاً لنا منذ البداية انه إن كان يستجيب الى «غرام» لويز به، فإنه مهتمّ أكثر ببائنتها الضخمة. وهي البائنة نفسها التي تثير كذلك لعاب شاب آخر من عائلة بوفينيي النبيلة يقدم نفسه مدافعاً عن العرش والكنيسة، ما يعني انه في اقصى اليمين. من ناحية مبدئية، كان على روسّيلان ان يساير موريل وبوفينيي طمعاً في ان يجتذب كل منهما اصوات الناخبين الذين يمون عليهم. لكن خَرَق الرجل وسوء تصرفه يدفعانه الى ان يبعد عنه كلاً منهما بعد الآخر. فهو من ناحية يرفض إعطاء يد لويز لموريل على رغم ان الفتاة تتعامل مع الشاب على انه خطيبها. أما بالنسبة الى بوفينيي، فإن روسّيلان يطرده معتقداً ان في إمكانه ان يفوز في الانتخابات من دون اي عون منه هو الآخر.
> في تلك الأثناء يظهر منافسان لمرشحنا، أولهما هو رجل النبالة بوفينيي الأب الذي كما حال إبنه يمثل التيار اليميني، والثاني هو رجل الأعمال الفاسد والدنيء غروشيه الذي جعله فلوبير يمثل اليسار. وإزاء هذه المنافسة الثلاثية يشعر روسّلان ان عليه ان يستميل الى جانبه الصحافي ذا النفوذ جوليان دوبرا، رئيس تحرير صحيفة «ليمبرسيال» («المحايد») ... فكيف يستميله؟ ببساطة عبر دفع زوجته الحسناء الى أحضان الرجل... وعلى هذا يكون فصلان من المسرحية قد انتهيا وباق علينا ما ستسفر عنه الانتخابات نفسها.
> في الفصل الثالث نجدنا أمام مشهد في غاية الطرافة – سيقول فلوبير لاحقاً بأسى أنه كان يعوّل عليها كي يوصل حسّ المرح والسخرية في المسرحية الى أوجهما – إذ هنا لدينا روسّيلان أمام صفوف من المقاعد الخالية المرتبة بكل عناية، وهو يتدرب على الخطبة التي سيلقيها عندما سيحقق الفوز الانتخابي الذي يبدو واثقاً من الحصول عليه. والحقيقة ان الخطبة المدهشة التي يلقيها الرجل هنا ستبدو لنا إن نحن تفحصناها خارج إطار هذه المسرحية، أشبه بمرافعة بالغة القوة والصدق والحيوية في تناولها للشأن الانتخابي ولعبة الديموقراطية والأكاذيب التي تتواكب معها وتناقضات اللغة السياسية الخشبية وما إلى ذلك من تفاصيل يمكن المرء أن يسقطها في كل بساطة على أي خطاب سياسي يشاء، منذ خطبة بروتوس وغيره من حول جثة القيصر القتيل في مسرحية شكسبير، وصولاً الى خطابات الرئيس الأميركي باراك أوباما حول التدخل العسكري الأميركي في سورية والعراق في زمننا الراهن. لقد عرف فلوبير كيف يلتقط هنا اللغة السياسية الخطابية المواربة والمخاتلة عازياً إياها في مسرحيته الى السيد روسّيلان الذي يحشو كلامه بالتناقضات التي سرعان ما يدحضها بعد ثوانٍ أمام المقاعد الخالية والجمهور الوهمي. غير ان المشكلة هنا تكمن في أن هذا الخطيب المفوّه، سرعان ما يفقد قدرته على الكلام وعلى إبراز التناقضات وعلى النيل اللفظي من خصميه حين سيجد نفسه بعد حين يوجه خطابه الى ناخبين حقيقيين أُتي بهم كي يلقي خطبته في حضرتهم. إنه أمامهم يفقد القدرة على الكلام وبدلاً من أن يصوّر تناقضات خصميه ومراوغاتهما يبدو هو متناقضاً كل التناقض، مخاتلاً من دون قصد ومراوغاً من دون ذكاء.. وعلى هذا النحو يُخلى المكان للفصل الثالث الذي نجد فيه روسّيلان جالساً وحيداً ينتظر نتائج الاقتراع مراجعاً حساباته: لقد ضحى بكل شيء في سبيل النيابة، أمواله الطائلة التي دفعها من دون حساب، سعادة ابنته التي داس عليها، شرف زوجته التي سيعلم انها باتت عشيقة سرية للصحافي الذي كان يفترض به ان يؤيده لكننا لن نعرف ما إذا كان قد فعل... خسر كل شيء فما هي النتيجة؟ لن نعرف بوضوح. كل ما في الأمر اننا سنسمع من خارج المكان صياح النصر، وسيتناهى الينا صوت اليساري غروشيه متسائلاً عما إذا لم يكن هو الرابح.
> لقد اراد فلوبير (1821 – 1880) ان يخوض المسرح السياسي بقوة في هذه المسرحية، ولكن كان من الواضح انه بدلاً من ذلك، بدا وكأنه يخوض السياسة نفسها من موقع لا يشاركه فيه أحد، فكان الفشل من نصيبه، مع نصائح كثر له يومها بأن يعود الى كتابة الرواية!