القاهرة 28 سبتمبر 2014 الساعة 03:09 م
المسرح في حد ذاته حالة وعي مقاوم متقدمة، وعي ممزوج بالآفاق المستقبلية التي تتأسس على قواعد من المعرفة والرؤى/المخاض، وهذا بالتالي نابع من ذات المسرحي، المهجوس بمنطقة الاشتغال الحقيقية لتأثيرات مستجلبة من الواقع الماثل بكل ارهاصاته وأسئلته الشائكة، لذا فلا يمكن النظر إلى المنتج الإبداعي بشكل عام والمسرح بشكل خاص كونه مجرد مقترح جمالي هائم في الفراغ، أو النظر إليه كمنظومة لغوية حركية استعراضية لا تقوم على محمولات فكرية وفنية عميقة.
وقد تكون محاولات تغييب الوعي المقاوم أقرب ما تكون إلى الدعوة إلى الثقافة العدمية، التي تبدو للوهلة الأولى تسير على غير هدى، بيد أنها من الخطورة بمكان بحيث تسهم في تضييق أفق القارئ، وتجعله يهيم في مجاهل العصر التقني بلا بوصلة، خاليا تماما من حمل أي مشروع ثقافي نهضوي مقاوم، وهذا يتماشى مع نتاجات سيطرة القوى الأحادية على شعوب الأرض، ومن هنا تنبع ضرورات التمسك بالوعي الإبداعي كمحفز لمكامن الحراك السياسي والاجتماعي، بل وقيادة القوى الاجتماعية إلى منطقة الفعل والانتباه أيضا.
إن الإرث المسرحي العالمي والعربي يؤكد أهمية المسرح في صياغة وجدان ونهج الأمة أكثر من كونه معبرا عنهما، فالعرب قديما كانت تقتتل بالقصيدة ويلتئم شملها بالسيرة الشعبية، وظل الإبداع سلاح من لا سلاح له، وصوتا رديفا للسلاح، فما كان من موجات نكوص المشروع العربي النهضوي بسبب النكبة أولا والنكسة ثانيا، وما تلاهما من خسائر عسكرية واجتماعية موجعة مع انتصاف القرن الماضي، إلا أنها أبرزت ما عرف بالأدب والفن المقاوم أو أدب وفن المقاومة، وهي مرحلة نابضة بالمنجز على هذا الصعيد، أخذت فيه الأجناس الإبداعية على عاتقها تعبئة الشارع وإنارة عتمة المرحلة، واستطاعت أن تكون الحصن المنيع الذي وقف طويلا أمام توغل الآلة العسكرية، وهمجيتها التي لم تقف عند حد.
لذا نجد أن المسرح تتوهج فنيته العالية وتأثيره الكبير مع ارتفاع أصوات البنادق، نصاً وعرضاً، واستشرفاً لما لم يأت بعد، وقادرا على الإمتاع وإدخال القارئ في أحصن مخابئه، وهو بالتالي لسان حال مرحلة، وهو أيضا نتاج محارب ورافض ومقاوم. يكفي أن نشير إلى عدد الاغتيالات التي طالت كتاباً وفنانين كانت إبداعاتهم تحمل وعيا بحجم اشتباكات المرحلة وما بعدها، وهذه الاغتيالات وغيرها من محاولات التضييق دليل على مدى تأثير الإبداع في قيادة توجهات الشعوب منذ بواكير الثورة الفرنسية إلى ما تبعها من خطى المسيرة البشرية.
تبدو المقاومة في ?المسرح، ?قد بدأت منذ بدايات المسرح الإغريق، ?إن اسيخلوس كتب عن الآلهة والصراع بين الآلهة، ?وكتب سوفوكليس عن الأبطال والصراع بين الأبطال، إن هذا الصراع ?يمثل بعداً من أبعاد المقاومة بشكل أو بآخر، ?مهما كانت نوعية تلك المقاومة، ?أهي ?بالفكر والحجة أو المقارعة والقوة. ?وبدا هذا في ?مسرحية ?يوربيدس (?406-480ق.م)" ?بنات طروادة "?، ?لتمثل مقاومة للحرب وإدانة لها، ?يصرح بذلك ?يوربيدس في ?مسرحية بنات طروادة على ?لسان هيكوبا زوجة بريام ملك طروادة، ?وهي ?تناجي ?وطنها طروادة الذي ?استولي ?عليه الإغريق، ?والمهدور إلى ?حد النهاية، ?وحتى في أعمال شكسبير المتعددة والقائمة على صراع الخير والشر، والأمثلة في المسرح العالمي عديدة، خاصة في فترات الحروب والاحتلالات.????????????????????????????????????????????????????
في المسرح والمقاومة عربياً نجد أن قضية القدس قضية ترتبط بالصراع في المنطقة العربية كقضية واحدة من أجل الوصول إلى التحرر. وهي تمثل شكلاً من أشكال قياس الرأي العام في العالم العربي الرافض للاحتلال. ولهذا لا يمكن أن ينفصل عنها المثقف، وبالضرورة فإن المسرح الذي يشكل على خشبته ضمائر الناس وضمير الأمة لا يمكنه ان ينفصل عن أهم قضايا الأمة.
عرفت فلسطين الفن المسرحي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال عدة محاولات لها قيمتها التاريخية برزت وارتقت في مطلع القرن العشرين خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى حين نشطت المدارس في تقديم المسرحيات خاصة المسرحيات الوطنية و التاريخية, وقد جاءت محاولات إنشاء مسرح فلسطيني واضح الرؤية في زمن الانتداب البريطاني في فلسطين وتحديدا عام 1918 واستمرت هذه المحاولات نشطة حتى نكبة 1948.
أصابت صدمة النكبة العنيفة من قبل الصهيونية المسرح الفلسطيني بخيبة أمل كبيرة بعد النشاط البارز والمحطات الهامة التي حققها زمن الانتداب البريطاني, وقد أدت هذه الانتكاسة إلى تشتت شمل فناني المسرح الفلسطيني فعاش المسرح ما بعد 1948 مرحلة انعدام وزن وكساد فني مسرحي وسكون تام للحركة حتى عام 1965 عام انطلاقة الثورة الفلسطينية.
بعد انطلاقة الثورة تشكلت الكثير من الفرق المسرحية الفلسطينية في بعض الأقطار العربية وفي داخل الأراضي المحتلة رغم كل الحواجز والقيود, وفي الشتات خارج فلسطين تشكلت جمعية المسرح الفلسطيني سنة 1966 في دمشق وقدمت أعمالا في عدة عواصم عربية وقد حملت هذه الجمعية فيما بعد اسم فرقة " فتح المسرحية " واستطاعت أن تقدم خلال عامين من نشؤها عملين مسرحيين هما: شعب لن يموت من تأليف سعيد المزين فتى الثورة وإخراج صبري سندس ومسرحية " الطريق " من تأليف وإخراج نصر شما وقد حققت هذه الفرقة سمعة حسنة ورواجا جماهيريا كبيرا واستقطبت عددا كبيرا من الأكاديميين المسرحيين الدارسين والمتخصصين في المسرح مثل خليل طافش وحسن عويني وحسين الأسمر فتوسعت قاعدتها الوطنية وأخذت صفة الشمولية وتغير اسمها ليصبح فرقة المسرح الوطني الفلسطيني تحت إدارة الفنان خليل طافش الذي يعتبر مؤسس المسرح الوطني الفلسطيني في الشتات.
ومع اشتعال الثورة الفلسطينية إثر حرب 1967 فقد نهض الأدب المقاوم من ناحية الكم على الأقل، إلا أن كتاب المسرح كثروا ومنهم ظهر الشاعر سميح القاسم الذي كتب مسرحية شعرية بعنوان (قرقاش) عام 1969 وكتب عام 1973 مسرحية (كيف رد الرابي مندل على تلاميذه) وكذلك مسرحية (الابن) 1974 وتمتاز هذه المسرحيات بمضمونها الوطني ولكنها لا ترتقي للمستوى المسرحي المطلوب .
وكتب كذلك الشاعر معين بسيسو مسرحيتين (ثورة الرنج) و(شمشون ودليلة) وكانت مواضيعها تدور حول زنج البصرة والهنود الحمر والثورة الفلسطينية وغرضه من ذلك الإيحاء بالصلات الكونية بينها.
كذلك ظهر الشاعر هارون هاشم رشيد ونشر مسرحية بعنوان (السؤال) كما مثلت مسرحية نثرية للكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور عام 1975 في مهرجان المسرح العربي ومع ذلك فإن الفرق المسرحية التي تتجاوز العشرين فرقة في الضفة الغربية لم تستمر في مواصلة عملها الفني لأسباب مختلفة.
ومن جانب آخر يرى غالي شكري ان مأساة فلسطين بعد هزيمة 1967 كانت منفذاً رمزياً للأدب عامة، وللمسرح خاصة، ذلك ان الأدب والمسرح بعد النكسة كانا قد أوشكا على التورط في مأزق معتم، اذ كان الأدب يركز بشكل أساسي على الجوانب السلبية في البنية الاجتماعية، وكان الجانب الايجابي الوحيد هو تنبؤ هذا الأدب بالكارثة، ولم تظهر في أدبنا وفي مسرحنا بارقة أمل نحو تجاوز الهزيمة ان وقعت، بسبب نغمة اليأس التي كانت سائدة، وان كان ثمة كتاب حاولوا مسايرة ما استجد من أحداث، وفي مقدمها الحدث الأكبر والأعمق والأخطر وهو المقاومة الفلسطينية، التي لم تكن غائبة عن الأدب والمسرح، ولكن تطورت بفعل أحداث الخامس من حزيران المؤلمة، ومعنى ذلك في رأي غالي شكري ان المقاومة الفلسطينية قد اكتسبت بعد الهزيمة أبعاداً لم تكن لها من قبل، وكذلك الاستجابة الفنية تجاه هذه القضية قد تباينت من كاتب الى آخر، لكنها احتفت في النهاية بالمقاومة كطريقة يتيمة للخلاص.
ففي العالم العربي نجد مسرح المقاومة بمفهومه الأوسع، سواء المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال والتعصب، أو المقاومة ضد الاستعمار، أو حتى ضد طغيان الحاكم، وهو المفهوم الأوسع للمقاومة قدمت أعمال لكتاب عرب على خشبة المسرح، أهمها ما طرحه علي أحمد باكثير في مسرحياته، ومنها: (شيلوك الجديد)، و(شعب الله المختار)، و(إله اسرائيل). وكذلك ما طرحه عبد الرحمن الشرقاوي في (النسر الأحمر)، وفيها يتصدى صلاح الدين مقاوماً للصليبيين، وفي (مأساة جميلة) يتناول الشرقاوي ملحمة المقاومة في الجزائر، وفي (ثأر الله: الحسن ثائراً والحسين شهيداً) يتناول مقاومة الحسين لطغيان الحاكم وفساده وعدم شرعيته، وفي (الفتى مهران) يقاوم مهران ظلم السلطان، ولكنه يسقط بسبب دخوله في نفق المساومة.
ويطرح ألفريد فرج في (سليمان الحلبي) مقاومة سليمان وقتله الجنرال كليبر رمز الاحتلال، وفي (النار والزيتون) يقدم فرج صورة للمقاوم الفلسطيني الثائر الذي يسعى الى تحرير أرضه من الكيان المغتصب، وفي عمله الأخير الذي لم ينشر الا بعد موته، وهو (حملة تفوت ولا شعب يموت) يقدم كاتبنا نماذج نادرة للمقاومة تتمثل في شيوخ الأزهر ورجل الشارع ضد بربرية الاحتلال الفرنسي عام 1798.
ويقدم لنا محمود دياب في (باب الفتوح) بطلا مقاوماً رومانسيا يحمل وردة وكتاباً من خلال اضاءة تاريخية تسلط على الماضي واستدعاء شخصية صلاح الدين رمزاً للانتصار على الصليبيين، وفي (رسول من قرية تاميرا) يتحدث دياب عن بطولات حرب أكتوبر.
ويطرح سعد وهبة في مسرحه نماذج من مقاومة أبناء القرية ضد الاحتلال الانجليزي اثناء ثورة 1919 في (المسامير)، كما يطرح نماذج تقاوم الكيان الصهيوني في مسرحيتي (رأس العشق) و(المحروسة 2015)، والأخيرة هي آخر ما خطت يداه من أعمال ابداعية.
ويقدم يسري الجندي صورة المقاوم في (اليهودي التائه) وقد اختار موقف سرحان بشارة وحادثة اطلاق الرصاص على روبرت كينيدي عام 1968 اساساً لمسرحيته، وفي (وا قدساه) يطرح الجندي قضية مقاومة الأجداد وتحريرهم للقدس، في الوقت الذي يعجز فيه العرب اليوم عن تحقيق هذا الهدف.
وفي هذا الاطار يقدم مصطفى محمود في مسرحيته (الزعيم) مقاومة المحتل العثماني على أرض ليبيا، وان كان ما يعيب البطل مثل الفتى مهران خطأه المأسوي بعد ان انحرف عن تحقيق اهدافه الثورية.
وفي (أيام الدم) للشاعر محمد صالح الخولاني يقدم نماذج مشرقة للمقاومة البروسعيدية ضد العدوان الثلاثي عام 1956. وفي (مبعثرات على طاولة القدس) يصور حسام عبد الرؤف المقاومة عبر تاريخ القدس، وفي (أطفئوا الأنوار.. هنا تل أبيب) يقدم أيمن فتيحة بطولات أطفال الحجارة ضد المعتدي المدجج بالسلاح. وفي (أغنية الحيتان) يعبر وليد عوني عن المقاومة الفلسطينية التي يرمز اليهما بالحيتان في وجه الكيان الصهيوني، الذي يرمز اليه بالقرش.
وفي (صلاح الدين الأيوبي) يقتبس نجيب حداد نص (الطلسم) لوالتر سكوت ليصور نماذج من المقاومة.. ويقدم معين بسيسو في (شمشون ودليلة) رصدا للقضية الفلسطينية، وفي (ثورة الزنج) يقدم لنا قراءة معاصرة للمقاومة بفلسطين في الوقت الحاضر، ويربطنا بثورة الزنج على المستوى التاريخي.
ويصور فلاح شاكر في (لجنة تفتح أبوابها متأخرة) مقاومة الجندي العراقي للتشويه الذي أحدثته الحرب الأميركية غير العادلة على أرض العراق في تركيبة الانسان العراقي. وفي (آخر أيام سقراط) يستقي منصور الرحباني من حياة سقراط انموذجاً لمقاومة المثقف عند السلطة. وفي (زهرة من دم) يفجر سهيل ادريس مأساة فادية التي تدفع ثمناً باهظاً لمقاومتها من دم بكارتها وأخيها وحبيبها وشهداء فلسطين.
ومحلياً شكل المسرح والمقاومة زاوية أساسية في الفعل المسرحي، وقد كان للمقاومة العربية ضد العدوان الإسرائيلي دوراً في نمو المسرح وتطوره، أداة لا يستهان بها في معركة المقاومة والتحرر، وقد حضرت القضية الفلسطينية بقوة في المسرح الأردني، منذ بواكير التأسيس، خاصة أن الأردن وفلسطين تجمعهما عوامل كثيرة جغرافية وتاريخية واجتماعية وثقافية، ولوجود تناغم كبير بين البلدين في كل المجالات، كما أن كثير من الفلسطينيين الذين أندغموا في الحركة المسرحية الأردنية، أولوا القضية الفلسطينية عناية خاصة، وخاصة مع بروز هاني صنوبر وفرقة " أسرة المسرح الأردني " ومسرح الجامعة الأردنية، والمسرح في اربد وبعض المدن الرئيسية، ولا يمكن الإحاطة بهذه الأعمال المسرحية المقاومة، التي عبرت الأجيال المتعاقبة من المسرحيين الأردنيين، من هاني صنوبر وحاتم السيد وزهير النوباني وعبد اللطيف شما، محمود الزيودي وخالد الطريفي وغنام غنام وغيرهم الكثير، وشكل انطلاق مهرجان المسرح الأردني مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، يقظة جديدة، وجيل جديد من أمثال حكيم حرب وعبد الكريم الجراح وفراس الريموني وخليل نصيرات وعصمت فارق وحسين نافع، والجيل اللاحق من أمثال محمد بني هاني وزيد خليل وغيرهم، حيث بقي هاجس الرفض والمقاومة واضحاً في أعمالهم المسرحية بشكال مختلفة، قائمة المقاومة على خشبة مسرحنا العربي تطول، لتعبر عن نبض المقاوم العربي الذي يردد مع المقاتل الفيتنامي «كاشاو» قوله: «لن ننساكم، فإن أغنياتكم ومسرحياتكم قد دفعتنا للقتال والنصر».
لقد كان للمسرح ولأدب كما قصائد المقاومة التي تحولت الى أغان لمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأحمد دحبور وعلي الخليلي وغيرهم بمثابة قوة دفع للمقاوم الفلسطيني على الجبهة، حتى ان العدو كان يقود من يغني هذه الأغاني في أي مكان على المقهى، أو في حفلات الزفاف الى السجن الذي يصل الى خمس سنوات، ما يؤكد فاعلية الفن والأدب في المقاومة.
hbarari54@hotmail.com
?