القاهرة 28 سبتمبر 2014 الساعة 01:32 م
كلاهما ممثل ذو ألف وجه، و كلاهما صاحب مدرسة السهل الممتنع، و أيضا كلاهما أطل على السينما بعد أن جاوز الثلاثين، إحدهما يحيا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية أطال الله عمره هو الممثل العالمى أنتونى هوبكنز، و الأخر رحل عنا و تركنا آسفين فقد خسرت السينما المصرية أحد كنوزها القليلة ، خسرنا " خالد صالح " رحل عنا ذلك الكنز الذى لو طال بقاؤه بيننا، لأثرانا بموهبته الفذة و عطاؤه المتجدد .
إن وجوه الشبه كثيرة بين خالد صالح العبقرى المصرى، و انتونى هوبكنز العبقرى الإنجليزى الذى اقتحم السينما الأمريكية، و شق طريقه بسرعة الصاروخ لكى يتقدم الصفوف كما فعل خالد صالح رحمه الله ، فكلاهما ظهر بعد أن جاوز العقد الثالث وكلاهما ينتهج منهج السهل الممتنع، الذى يقنع المشاهد بالشخصية مهما كانت صعوبتها و تعقيدها، بأداءه البسيط الطبيعى الذى يخلو من التكلف والمبالغة. و رغم اختلاف الأدوار التى أداها النجمان، والذى فرضه الاختلاف فى طبيعة البيئة السينمائية و الثقافية فى مصر و الولايات المتحدة.
فبينما نجد خالد صالح يؤدى دور رجل الشرطة الفاسد فى فيلم " هى فوضى " ، نجد أنتونى هوبكنز يؤدى دور هانيبال ليكتر الطبيب آكل لحوم البشر فى " صمت الحملان " و برغم اختلاف الدورين، إلا أن الأسلوب فى تجسيد الشر و السادية يعتمد على البساطة فى الأداء و التلقائية ،فى إظهار الجوانب المظلمة فى الشخصية، فكلاهما شخصية سادية مهووسة بامرأة بعينها، فبينما ينصب هوس هانيبال على كلاريس" جودى فوستر " مخبرة المباحث الفيدرالية، و محاولة معرفة ماضيها، ينصب هوس رجل الشرطة الفاسد على جارته الفتاة الشابة نور" منة شلبى " فيحاول التقرب منها بشتى الصور، و عندما يفشل فى ذلك يقوم باغتصابها.فكلاهما يمتلك الوحشية التى يستخدمها أحدهما فى قتل البشر و أكل لحومهم و الثانى يستخدمها فى الاغتصاب و الاعتداء و الابتزاز و التعذيب لذا فلا يوجد فرقا كبيرا بين الشخصيتين .
أما فى " الريس عمر حرب " نجد خالد صالح يلعب دور " صاحب كازينو القمار " وهى تلك الشخصية المسيطرة المهيمنة، التى تتحكم بالجميع كعرائس الماريونيت من خلال خيوط حريرية دقيقة لا ترى. بينما فى فيلم " ايدج " نجد انتونى هوبكنز يلعب نفس الدور، فهو رجل الأعمال الثرى الذى تخونه زوجته الممثلة، مع بطل الفيلم الذى ينتجه هو لها ،و فى الفيلمين نجد أن كلا البطلين يحتاج إلى دمية يتلاعب بها فيدللها تارة و يقسو عليها تارة أخرى. و هى فى الريس عمر حرب خالد الشاب المتمرد " هانى سلامة " و الذى يستمتع عمر حرب بترويضه و إخضاعه و التلاعب به، فهو مرة يقسو عليه ، و مرة أخرى يحنو عليه حنو الأب.
بينما فى فيلم الحافة يستمتع تشارلز " انتونى هوبكنز بأن يجعل دميته المدللة عشيق زوجته بوب " اليك بولدوين " ففى الفيلم تسقط بهما الطائرة فى برارى كندا، و يواجهان الجوع و الموت على يدى أحد الدببة البنية أكلة البشر، و الذى يترصدهما ترصد الصياد للفريسة، ورغم معرفة الزوج بالعلاقة التى بين زوجته و بوب فإنه لا يتركه للموت، و لكنه يجعله يتصور أنه يريد قتله، فيظل يتلاعب به طوال أحداث الفيلم و كلا الممثلان فى الفيلمين يمارس لعبة سيطرة العقل، فهو يتحكم فى من حوله عن طريق الهيمنة على عقولهم، بذلك الحديث الهادئ الذى يشبه أسلوب الأطباء النفسيين و الذى يتسلل إلى العقل فيقنعه بأى فكرة يريدها ، إنهما خالد صالح و انتونى هوبكنز يصوران لنا تلك الشخصية الهادئة الرزينة، التى تحتوى على كم هائل من حب السيطرة و الاستحواذ، حتى على عقول البشر الأخرين .
فى" فراكشر" يؤدى انتونى هوبكنز، دور شخصية احتيالية من الدرجة الأولى تتلاعب بالقانون، فهو يقتل زوجته الخائنة و يتلاعب القانون و الأدلة لتبرئة نفسه، متحديا أمهر رجال النيابة و البوليس فى الولايات المتحدة، و بالفعل ينجح فى تبرئة نفسه أمام المحكمة. و فى " ابن القنصل " و رغم الاختلاف الشكلى فى الدورين فبينما يلعب خالد صالح دور المزور المحتال ،الذى يستخدم ذكاؤه الإجرامى فى تنفيذ مخططاته و يلعب انتونى هوبكنز دور المهندس الثرى، الذى يقتل زوجته التى تخونه و يتلاعب بالأدلة لتبرئة نفسه، إلا أن كلا الشخصيتين يمثل العقلية التأمرية الإجرامية الشديدة الذكاء، و التى تتسم بالشر و الغدر فبينما يغدر القنصل " خالد صالح " بزوجته و شريكه ، يغدر تشارلز " هوبكنز " بزوجته، فيقتلها بدلا من الانفصال عنها فانفصال الزوجين هو شىء شائع فى الثقافة الغربية .و فى الحقيقة فإن كل من البطلين يمثل مجتمعه الخاص، لذلك تأتى الأدوار متباينة و لكن أساس الشخصية واحد تقريبا .
كانت بدايات خالد صالح مع السينما فى فيلم "ننوسة" مع صلاح قبيل و محمود الجندى و سحر حمدى عام 1992 و من بعده " جمال عبد الناصر " عام 1999 حيث كان يؤدى دور صلاح نصر مدير المخابرات ،تتعدد أدواره الجيدة حتى يظهر ملاكى اسكندرية عام 2005مع المبدعة "ساندرا" و رغم أنه ليس بطل الفيلم إلا أنه يؤدى شخصية صعبة و محورية و معقدة فهو الرأس المدبر لعملية القتل، التى يدور حولها محور الأحداث و هى شخصية مركبة، فهو ليس مجرما بطبيعته و لكنه يملك العقل و الضمير الإجرامى، الذى يجعله يدبر لقتل زوج شقيقته عندما يهددها بالطلاق، و تتعرض للخطر خطة الأخ التى تم تدبيرها بحيث تتزوج أخته من رجل الأعمال الثرى، لتعيش و أخوته تحت مظلة أمواله ثم ترثه فى النهاية . و فى عمارة يعقوبيان عام2006 يطل علينا خالد صالح إطلالة مختلفة فهو يمثل باقتدار دور رجل الحكومة الفاسد الذى يمسك بمقاليد الأمور بيد من حديد و لا يستطيع أحد تحديه مهما كان قويا أو ذو نفوذ فهو يمثل فساد العصر الثلاثينى المظلم ، وبالرغم من أن دور خالد صالح فى عمارة يعقوبيان ليس من أدوار البطولة إلا أنه أجاد تقمص الشخصية فى حركاتها و إيماءاتها ..و فى" تيتو" مع أحمد السقا، يظهر خالد فى دور رجل البوليس الفاسد ذو السلطة و النفوذ، و الذى يجند أحد المجرمين لتنفيذ عمليات لصالحه، و هو هنا يظهر خفايا تلك الشخصية، التى لا تتردد فى قتل تيتو المجرم التائب عندما يرفض انتشاله من المأزق الذى يتعرض له .
و لكن السينما لم تكن هى كل مجال خالد صالح الإبداعى، فهو قد قام ببطولة العديد من المسلسلات الناجحة مثل "تاجر السعادة" و "الريان" الذى جسد مرحلة تحول الاقتصاد السلعى، إلى اقتصاد نقدى بسبب المضاربة على الدولار، و عملية الاتجار الغير قانونية فى العملة. و فى "تاجر السعادة" يؤدى دور الرائى الذى يخترق حجاب الغيب مانحا الناس آمالا و أحلاما وردية تحقق لهم سعادة التمنى . و فى مسلسل "أحلام عادية" مع يسرا فهو يؤدى دورا من أجمل أدواره، و هو دور المجرم الصعلوك " فرج خنزيرة " و هو ذلك الرجل الذى لا يتردد فى عمل أى شىء فى سبيل المال، و هو على هذا له مظهر رث لا يتخلى عنه، فهو جزء من شخصيته التى بنيت على الصعلكة و استغلال النساء فى الحصول على المال أى كانت الطريقة و الأسلوب .
لم تكن تلك هى كل إبداعات و إسهامات خالد صالح، الذى قدم من يقرب من ستين عملا ما بين السينما و التلفزيون. كان خالد صالح طاقة خلاقة و إبداعا متدفقا و فنانا يحترم فنه ،و إنسانا جميلا شرفت بمقابلته ذات مرة، فوجدت أمامى شخصا بسيطا متواضعا، رغم أنه كان يتربع فوق عرش الدراما فى ذلك الوقت. و لكن تلك إرادة الله أن تنطفئ تلك الجذوة من الفن فى أوج اشتعالها، لتترك مكانها فراغا مظلما. رحل عنا خالد صالح تاركا بصمة فى السينما المصرية لا تمحى، و لوعة فى قلوب جمهوره و قلوب كل من عرفوه، و لكن ما حيلتنا و كما قال "الشاعر ":
وَالمَوْتُ نَقَّاٌد عَلى كَفِّهِ, جَواهِرٌ يَخْتارُ مِنْها الجِيادْ.