القاهرة 28 سبتمبر 2014 الساعة 12:37 م
تشهد التسجيلات التاريخية لخطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في قاعة الجمعية العامة للامم المتحدة علي أمرين طالما توقف عندهما العالم بكثير من الدهشة والتقدير.
وإذا كان ثمة من قد يعتبر الملاحظة الاولي "شكلية"، ويمكن تفسيرها بأن علم "الجمهورية العربية المتحدة" كان يرفرف في سماء نيويورك أمام مبني الامم المتحدة، جنبا الي جنب مع راية "الاتحاد السوفييتي"، من منطلق ترتيب الابجدية اللاتينية للبلدان الاعضاء، فإن الملاحظة الثانية تستحق أن نقف عندها بكثير من التأمل والاحترام معا، وتتعلق بالكلمة التي ألقاها عبد الناصر في قاعة الجمعية العامة، وإصراره علي شق طريقه إلي منصة "الامم المتحدة" علي نحو "غير تقليدي" مغاير للبروتوكول، وهو ما نستوضح أسبابه من واقع تفاصيل اللقاء الذي جري في 24 سبتمبر 1960 بين عبد الناصر والزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف بحضور وزيري خارجية البلدين: محمود فوزي، واندريه جروميكو. وكان فيكتور سوخودريف أشهر مترجمي الكرملين لما يزيد على أربعين عاما، سجل وقائع اللقاء بكل تفاصيله التي تضمنتها الوثيقة الموجودة ضمن "مجموعة وثائق ارشيف السياسة الخارجية للاتحاد الروسي تحت رقم 138 (ص 334-340 ):
بعد تبادل التحية، قال ناصر انه سمع ان نيكيتا خروشوف القي خطابا طويلا في اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة.
واجاب خروشوف بان ذلك كان بسبب تراكم الكثير من القضايا التي كان يجب تقريرها. والحقيقة ان هناك البعض الذي تطرق الي مثل هذه القضايا من منطلقات "مريحة"، اما نحن فندخل في الموضوع بشكل مباشر، ودون مواربة، ونقول ما نفكر فيه.
وقال ناصر ان الصحف الامريكية تحاول لفت انظار الاوساط الاجتماعية الي ما يسمونه بهجمات نيكيتا خروشوف ضد الامم المتحدة، دون الاهتمام بقضايا الاستعمار ونزع السلاح" .
وكان خروشوف فسر ملاحظات عبد الناصر بقوله ان الامريكيين يحاولون انتزاع المبادرة واملاء ارادتهم وارغام الاخرين علي تبني ما يريدونه، بل والحديث علي النحو الذي يتفق ورغباتهم. واشار خروشوف الي ان هؤلاء الامريكيين يعملون من اجل تحويل الامم المتحدة الي فرع لوزارة الخارجية الامريكية. وتساءل عن السبب الذي يمكن من أجله ان يصبر الاخرون علي ان يكون الامين العام للامم المتحدة، ألعوبة في ايدي القوي الامبريالية الامريكية.
واستطرد خروشوف ليقول ان الامريكيين يريدون بعد توقيع معاهدات نزع السلاح تشكيل قوات مسلحة دولية. واذا كانوا يحاولون اقناعنا بان داج همرشولد الامين العام للامم المتحدة هو الذي سيتولي الاشراف علي هذه القوات فانها ستكون عمليا تحت إمرة الولايات المتحدة، وضرب مثالا علي ذلك بما يحدث في الكونغو. وقال ان الامر اذا تطور علي هذا المنوال، فمن الممكن ان تعرب الولايات المتحدة عن رغبتها في ارسال هذه القوات الي الاتحاد السوفييتي.
وردا علي ملاحظة عبد الناصر التي ابداها ضاحكا، حول ان خروشوف استطاع تحقيق بعض النجاح، قال الزعيم السوفييتي إنه لم يلحظ انه حقق نجاحا، ومع ذلك فانه يتساءل عن السبب الذي يدعوه الي الموافقة علي مواقف تتناقض مع معتقداته نظرا لان الامم المتحدة منظمة دولية لا يجب ان تخدم مصالح قوي بعينها. وسأل خروشوف عبد الناصر عما اذا كان يمكن ان يوافق علي ان يتولي شيوعي منصب الامم المتحدة، ليرد علي سؤاله بقوله :"طبعا لا. فلماذا اذن يجب ان يكون الامين العام للامم المتحدة انسانا خاضعا لارادة الولايات المتحدة وحلفائها؟". واضاف قوله بان ذلك هو ما دفعه الي التقدم باقتراح تشكيل امانة عامة للامم المتحدة من ثلاثة افراد يمثل كل منهم مجموعة من الدول.
وكان عبد الناصر انتقد في حديثه مع خروشوف، النهج الذي تتبعه قوات الامم المتحدة في الكونغو، وكشف عن قراره بشان سحب الكتيبة المصرية التي تعمل في اطار قوات الامم المتحدة في الكونغو في حال محاولة استخدامها للاستيلاء علي مطار واذاعة ليوبولد فيل، وهو ما أثني عليه خروشوف، وقال ان همرشولد يعمل بايعاز من تعليمات الخارجية الامريكية. وخلص الزعيمان في هذا الصدد الي ان الامم المتحدة تعمل ضد حكومة لومومبا في محاولة للاطاحة بها.
وبهذه المناسبة، نشير الي اننا ذكرنا فيما سبق أن القيادة السوفيتية عن طريق سفيرها في القاهرة طلبت ابلاغ عبد الناصر بضرورة التراجع عن قرار سحب الكتيبة المصرية من الكونغو. توقف الحديث برهة لدخول النادل وهو يحمل مشروبا كحوليا. هنا علق خروشوف علي ذلك بقوله :
"ان النادل عديم الخبرة، ولا يعرف ان العرب لا يحتسون الخمور علانية امام المجتمع، لكنهم يتعاطونها علي انفراد جلوسا امام المرآة" !.
و هو ما رد عليه ناصر رد ضاحكا بقوله:
"عليكم في مثل هذه الحالة توزيع "مرآة" علي كل العرب الموجودين في هذا المكان"!.
علي ان خروشوف لم يجد حرجا في مواصلة الدعابة:
"هنا لن يقتصر الامر علي مجرد "المرآة" ، بل مطلوب توفير غرفة فردية لكل منهم"!.
وعاد الزعيمان الي مناقشة ما طرحه الغربيون حول موضوع تشكيل القوات الدولية تحت رعاية الامم المتحدة الامر الذي علق عليه خروشوف ساخرا بقوله:
" لا يوجد بيننا حمقي ! ".
آنئذ التقط ناصر طرف الحديث ليعيد الي الاذهان ما سبق وقبلته مصر بعد العدوان الثلاثي حين سمحت بوجود قوات الامم المتحدة في سيناء . وقال إن مصر ارادت ذات يوم ارسال طائراتها الي احد المطارات في سيناء، لتصطدم برفض قيادة قوات الامم المتحدة بحجة ان المطار لم يعد تحت إمرة الحكومة المصرية. وقال ان الحكومة المصرية اضطرت الي الدفع باحدي كتائبها المسلحة الي هناك، لتضطر قيادة قوات الامم المتحدة الي الامتثال والسماح بهبوط الطائرات المصرية. ومضي عبد الناصر ليقول ان الامر تكرر حين ارادت مصر ان تبعث بحاكم مصري الي قطاع غزة، وهو ما رفضته قوات الامم المتحدة، وما دفع الحكومة المصرية الي التهديد ثانية بارسال قوة مسلحة لمرافقة المحافظ، ما ارغم هذه القوات علي الامتثال للارادة المصرية.
وعلق خروشوف علي ذلك بقوله انه لو كان هناك ممثلان آخران عن الدول المحايدة (يقصد دول حركة عدم الانحياز) والدول الاشتراكية الي جانب همرشولد لما كانا سمحا بمثل هذه الاوضاع.
ومضي خروشوف في حديثه مع عبد الناصر ليقول :
"لقد تمادي الامبرياليون وبكل بساطة في وقاحتهم . واذكر انني وحين كنت في زيارة للندن في عام 1955 تناقشت مع ايدن ( انطوني ايدن رئيس وزراء بريطانيا) ولويد (سلوين لويد وزير الخارجية). وقال ايدن آنذاك، أنه واذا حدث وفقدت انجلترا مصادر النفط في الشرق الاوسط ، فان انجلترا سوف تخوض الحرب نظرا لان انجلترا يمكن ان تهلك بدون النفط. وقلت ردا علي ذلك:"فلتتفقوا علي شراء النفط باسعار تجارية. اما اذا حاولتم فرض ارادتكم فان الاتحاد السوفييتي سوف يتدخل ولن يسمح لكم بذلك".
وهنا اشار عبد الناصر الي ان ايدن تناول هذه الواقعة في مذكراته. غير ان خروشوف عاد ليقول :
" ان الامبرياليين يتمتعون باخلاقيات قطاع الطرق . فحين يرون انهم يستطيعون خنق احد ما، فانهم لا بد ان يفعلوا ذلك. اما اذا راوا ان قواهم لن تسعفهم لتحقيق مرادهم فانهم يتحولون الي احترامه".
وقد علق ناصر علي حديث خروشوف بسرده لاحد الامثلة كدليل علي كيفية تعامل الامبرياليين مع البلدان التي ترفض الامتثال لارادتهم ، مشيرا الي ما قامت به بريطانيا والولايات المتحدة برفضهما المشاركة في تمويل بناء السد العالي.
غير ان خروشوف عاد ليشير :
" الي ما قامت به الحكومة السوفيتية حين تعرضت مصر للعدوان الثلاثي حيث بعثت برسالة تتضمن الانذار السوفييتي، في نفس الوقت الذي عرضت فيه علي الرئيس الامريكي ايزنهاور ارسال رسالة مشتركة تتضمن ادانة العدوان من جانب بريطانيا وفرنسا. وقد اصيبت الولايات المتحدة بالرعب حيث لم تكن تتصور يوما ان تشارك الاتحاد السوفييتي في تهديد اصدقائها ومنهم بريطانيا وفرنسا. وكانت الحكومة السوفيتية علي يقين من ان الولايات المتحدة لن تشارك الاتحاد السوفييتي في اية اعمال ضد اصدقائه، ومن ثم فقد بعثت بهذه الرسالة من اجل فضح الولايات المتحدة التي اقتصرت بالاقوال، لا بالافعال، علي اعلان معارضتها للعدوان ضد مصر".
وردا علي ما قاله ناصر حول ان الامبرياليين يحشدون قواهم في الشرق الاوسط ويعتمدون في الاساس علي اسرائيل والاردن بالتعاون وبطبيعة الحال، مع تركيا وايران، قال خروشوف:
"ان الاتراك لن يقدموا الان علي مثل هذه المغامرة في المنطقة ، وإن كان الامبرياليون يستطيعون استخدام اسرائيل والاردن لتنفيذ مآربهم.
كما انه يتراءي لي أن ج.ع.م صارت أكثر قوة عن ذي قبل، فيما صار المعسكر الاشتراكي أقوي كثيرا عنه في فترة العدوان ضد مصر، فلم يكن الاتحاد السوفييتي يملك آنذاك الصواريخ الباليستية، لكنه يملكها اليوم".
وخلص خروشوف الي ان كل الظروف الان مهيأة لطرح تغيير تركيبة الامم المتحدة وهو ما علق عليه اندريه جروميكو بقوله ساخرا، انه يمكن الان اقناع فوزي وزير الخارجية بذلك.
وعاد خروشوف ليقول تعليقا علي ما قاله جروميكو، ان الحكومة السوفيتية يمكن ان تعلن تاييدها لانتخاب همرشولد وفوزي وجرميكو في حال طرح اسمائهم للامانة العامة للامم المتحدة.
وعلق محمود فوزي علي كلمات خروشوف بقوله :
"ان الدول الامبريالية لا يمكن ان توافق علي ترشيح جروميكو وفوزي لانها تعلم انهما اصدقاء.
وعاد الزعيمان ناصر وخروشوف الي حديثهما الذي تناول بالدرجة الاولي خطوات تنسيق الجهود المشتركة من اجل دعم استقلال الكثير من بلدان الشرق الاوسط والقارة الافريقية في مواجهة القوي الامبريالية التي تواصل محاولاتها التشبث بما بقي لها من مواقع في افريقيا . واشاد خروشوف بمواقف نكروما وسيكوتوري فيما اعرب عن رغبته وحسب ما كتبه سوخودريف مترجم الزعيم السوفييتي في مفاتحة عبد الناصر في امر قال انه اصطدم به لدي القائه لكلمته في الامم المتحدة .
وقال خروشوف :
" ان الرئيس ايزنهاور دلف الي منصة قاعة الجمعية العامة للامم المتحدة من " كشك كلابي" جانبي علي مقربة من منصة الرئاسة. وقد حذا تيتو حذوه . كما ان هناك من اقنع نكروما وللاسف ان يفعل نفس الشئ. وقد طرحوا عليً ان اتبع نفس النظام ، لكنني رفضت تماما ان ادلف الي القاعة عبر هذه "الكُوًة".
واوصي خروشوف ناصر من منطلق الصداقة، بعدم الموافقة علي مثل هذا الاجراء ، وان يتقدم الي منصة قاعة الجمعية العامة من مكانه في قاعة الاجتماعات متخذا طريقه عبرها كلها. وقال انكم بذلك ستكتسبون وزنا كبيرا في انظار كل الشعوب الافريقية والاسيوية. لكن خروشوف سرعان ما توقف ليقول ان الامر متروك لتقديركم بطبيعة الحال، فانتم رئيس ، اما انا فلا اكثر من رئيس حكومة، وعليكم اذا اردتم الولوج عبر هذه "الكوة" فان القرار قراركم".
واستطرد الزعيم السوفييتي ليقول :
"ان هذا الاجراء كان من وحي افكار همرشولد ، من اجل تمييز الرئيس الامريكي . وكان جيرتر (كريستيان جيرتر وزير الخارجية الامريكية 1943-1953) هو الذي اوحي له بذلك.
وعلق ناصر علي ذلك بقوله اذا كان المرء يجلس مع اعضاء وفده في القاعة، فلماذا اذن يصعد الي المنصة عبر ممر جانبي.
وعلق خروشوف علي ذلك ضاحكا بقوله ، ان تيتو كان يجلس مع اعضاء وفده ، حتي تقدم من يرافقه خارجا من القاعة ، ليدخل ثانية من مدخل جانبي".
وكان محمود فوزي قال ان النظام كان افضل من ذلك في السابق في الامم المتحدة ، حيث كان يجري مرافقة رؤساء الدول من مواقعهم في القاعة وحتي المنصة عبر كل القاعة.
وكشف خروشوف عن ان هذه المراسم تغيرت لان ممثل الاتحاد السوفييتي اعلن انه وفي حال تقدم رئيس الولايات المتحدة صوب المنصة عبر كل القاعة، فان السوفييت سوف يفضحونهم. أنذاك اقدم همرشولد علي تغيير نظام الدخول وحاول ارغامي علي ان أحذو حذو ايزنهاور وهو ما رفضته . وانه لمن دواعي الاسف ان يسقط نكروما في هذا الفخ .
وهنا تساءل عبد الناصر عما اذا كان خروشوف يشعر بالاسف تجاه تيتو ايضا ؟!.
واجاب خروشوف ان نكروما لا يزال في عمر الشباب وهو سياسي لا يتمتع بخبرة كبيرة ، بينما تيتو رجل مجرب وكان يستطيع ادراك من اي الثغرات يمكن ان يمر.. وانتهي اللقاء عند هذا الحد ليفترق الزعيمان علي امل لقاء جديد ".
وبهذه المناسبة يمكن للقارئ استعادة الشريط السينمائي التسجيلي لخطاب الرئيس عبد الناصر في الامم المتحدة علي مواقع "اليوتيوب" للتأكد من ان عبد الناصر التزم بتوصية خروشوف وشق القاعة صوب منصة قاعة الجمعية من موقعه الي جانب اعضاء الوفد المصري، وسط تصفيق حاد من جانب الحاضرين، وهو نفس التصفيق الذي لم تقل حدته بعد انتهائه من كلمته ولما يزيد عن المدة الزمنية التي استغرقتها العودة الي مكانه عبر كل القاعة.