القاهرة 18 سبتمبر 2014 الساعة 01:39 م
* في مثل هذه الأيام من العام الماضي أو قبلها بقليل فاجأ المهرجان القومي للسينما المصرية جمهور افتتاحه بتكريم سعيد مرزوق وحضوره رغم مرضه الطويل. وصعوده علي المسرح بكرسيه المتحرك ليلهب مشاعرنا جميعاً بالمحبة والتقدير والحماس فوقفنا نصفق طويلاً لهذا المبدع الكبير المبتسم مع معاناته الصعبة وكانت الابتسامة تعني أملاً في الشفاء. وفي العودة للعمل.. لكن سعيد مرزوق توفي السبت الماضي بعد عام من أطلالته الأخيرة تاركاً لنا ميراثه المهم من الأفلام السينمائية التي لم يمر عمل منها بسهولة أغلبها. وقبله أعماله القصيرة التي انتجها التليفزيون المصري حين كان يعمل به في بداياته من خلال "مراقبة الأفلام السينمائية" التي لم يعد لها وجود الآن.. في هذا الميراث أيضا المجموعة الوحيدة من الأفلام الروائية القصيرة التي أنتجتها فاتن حمامة وقامت ببطولتها بعد فيلم أول قصير أيضا من اخراجه بعنوان "أغنية الموت" لتكون هذه المجموعة تجربة فريدة في مسار السينما المصرية ولتضيف إلي سعيد مرزوق أو "فيلسوف الصورة" كما أطلق عليه الناقد مجدي الطيب في كتابه المهم عنه المزيد من التفاصيل لشخصية مؤ ثرة من تلك الشخصيات التي صنعت نفسها بنفسها من خلال الرؤية والثقافة والتجريب والثقة بالنفس والاجتهاد إلي أقصي الحدود ثم تلك المحبة العامرة للوطن والغضب علي ما يحدث له من أعداء الخارج والداخل.. وهؤلاء تحديداً ما وجه المخرج الراحل أغلب اعماله لفضحهم.
دموع السلام
* في بدايات عملي الصحفي كان التليفزيون المصري أكبر منتج للأفلام التسجيلية والقصيرة بعد المركز القومي للسينما وبينما أصبحت أسماء مخرجي هذه الأفلام ومبدعيها رائجة في السبعينيات من خلال انتاج وفير ومتميز تتبع كل خطوات ثورة 23 يوليو سينمائياً. فإن التليفزيون كان المعمل الثاني لتفريغ مبدعي هذه السينما ومن بينهم سعيد مرزوق الذي طالب بفرصة للإخراج من أمين حماد رئيس التليفزيون وقتها فحصل عليها بعد اختبار قصير في "برومو" موسيقي يعرض بين الفقرات. وبعدها قدم أول أفلامه التسجيلية و"أنشودة السلام" عن الحرب والموت ثم "اعداء الحرية" وكان يربط بين العدوان الأمريكي علي فيتنام والعدوان الاسرائيلي علي فلسطين. بعدها قدم مرزوق فيلمه الرائع عن رحيل عبدالناصر "دموع السلام في عام 1970" وبعد عامين قدم دراسة عن جندي مصري يقف علي خط القناة حاملاً سلاحه شاعراً بالمرارة وهو يري الرأية الإسرائيلية علي الجانب الآخر من القناة وكان "الطريق إلي النصر" بمثابة الصدمة التي اصابت الكثيرين مما شاهدوه وقتها وعبرت عنها مظاهرات طلبة الجامعات في مصر مطالبين بالحسم.. وبعدها جاءت حرب أكتوبر المجيدة.. وتوقف سعيد مرزوق عن صناعة الافلام التسجيلية.. وأن لم يتوقف عن تقديم الأفلام الروائية القصيرة التي كان أولها بعنوان "طبول" عام 1969 عن رؤية شاب للقاهرة وفنونها ثم "أغنية الموت" عن قصة توفيق الحكيم وحوار الأبنودي وتصوير عبدالعزيز فهمي وأول أفلام فاتن حمامة القصيرة "45 دقيقة" وأول تعامل ايضاً مع الانتاج التليفزيوني كله. وكان السبب في قبولها الفنان والتجربة هو الفيلمان الطويلان الروائيان لسعيد مرزوق اللذان خرج ومن خلالهما من أحضان التليفزيون إلي عالم السينما الكبير وهما "زوجتي والكلب" عام 1971 و"الخوف" عام 1972 والاثنان عن قصة وسيناريو وحوار سعيد مرزوق وشاركه في الثاني الكاتب مصطفي كامل وكانت البطولة في الفيلمين ايضا لسعاد حسني ونور الشريف مع فريق من أهم ممثلي السينما المصرية في السبعينات علي رأسه محمود مرسي البطل الثالث "زوجتي والكلب" الذي كان يطرح هواجس وتخاريف رجل عاش حياته بالطول والعرض تجاه زوجته الجديدة صغيرة السن.
أريد حلاً..
* لا ينسي أحد منا فيلم "أريد حلاً" عن قصة الكاتبة حسن شاه وحوار الكاتب سعدالدين وهبة التي كتب لها السيناريو سعيد مرزوق وأخرجها وأبدع في ادارة أبطالها فاتن حمامة ورشدي أباظة وليلي طاهر ومحمد السبع وكمال ياسين وغيرهم ومنهم الفنانة الكبيرة أمينة رزق ليكون رسالة فنية مدوية تجاه أوضاع النساء في مصر وقهرهن من خلال زواج فاشل وزوج متآمر وفيه يبتعد سعيد مرزوق عن استخدام الرمز والتجريب في الكادر واستخدام الحيل الدرامية ليغرق في الواقع ودهاليزه مقترباً أكثر من المشاهد العامة ومن هموم الحياة اليومية المادية ثم يقفز من "أريد حلاً" إلي مقترباً أكثر إيجابية وعنفاً وبلاغة في الهجوم علي الفساد في كل صوره في فيلمه "المذنبون" عام .1976
المذنبون.. والرقابة الضحية
* في ذلك الوقت لم تكن الشكاوي ضد الأفلام تذهب إلي رئيس الوزراء فوراً "أو الوزير" ولكن خطاباً كيديا من مصري يعمل في الخليج نشر في صحيفة وضع الرقابة كلها في قفص الاتهام بسبب "المذنبون" فأوقف 14 رقيباً ورقيبة عن العمل برئاسة رئيستهم اعتدال ممتاز. وأوقف الفيلم الذي كان قد حصل علي عدد كبير من الجوائز والمأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ والذي كان يتحدث عن مراكز القوي الجديدة التي صعدت في المجتمع المصري في السبعينات وهي واقعة تستحق استعادتها والتحقيق فيها الآن ففيها كل عناصر قضية مفتوحة لم يتم الفصل فيها منذ عشرات السنين بل علي العكس يزداد الأمر سوءاً بفعل جماعات ترغب في الوصاية علي العقل والإبداع المصري وكتائب إلكترونية تبحث عن أية واقعة لتصنع منها مسلسلات علي صفحات الإنترنت لقد قبض علي مرزوق مرتين بسبب فيلمه لكنه رفض منذ هذه اللحظة تهمة "الاساءة إلي سمعة مصر" المعلقة حتي الآن في انتظار غيره. وبعد عامان من "المذنبون" عاد للعمل بمجموعة الأفلام القصيرة "حكاية وراء كل باب" والتي مثلتها فاتن حمامة قبل أن يقدم فيلمه الصادم "انقاذ ما يمكن انقاذه" بعد عشر سنوات "1985" والذي تنبأ فيه بصعود التيارات المتطرفة وهجومها علي المجتمع وبعده قدم "أيام الرعب" عن قصة جمال الغيطاني وسيناريو يسري الجندي والذي طور فيه رؤيته للمتطرفين والخوارج بتقديم صورة قريبة لما تفعله داعش الآن من هدم لمقامات الأولياء.. بعدها كانت صرخته ضد الانهيار الاخلاقي من خلال فيلم "المغتصبون" عام 1989 وصرخته الثانية ضد العنف الزوجي وانهيار الرحمة والود في "المرأة والساطور" عام 1997 وصولاً إلي "جنون الحياة" عام 1999 و"قصاقيص العشاق" عام 2003. 13 فيلماً روائياً طويلا وستة أفلام روائية قصيرة وخمسة افلام تسجيلية تركها هذا المبدع الكبير.. وعلينا فقط أن نستعيدها وأن نقدمها للأجيال الجديدة.. خاصة تلك المجموعة التي انتجها التليفزيون والتي تتلامس مع الظروف التي تعيشها مصر الآن سياسياً.