القاهرة 14 سبتمبر 2014 الساعة 04:14 م
دائما ما كان الرقص الشرقى فى تقييم المجتمع المصرى، يتأرجح بين المؤيد و المعارض، بين الفن الجميل و الاثارة التى ترفضها التقاليد المصرية المحافظة. وفى الأونة الأخيرة عاد الرقص الشرقى الى ساحة الحوار المجتمعى، بعد الجدل الذى اثاره برنامج الراقصة .و فى الحقيقة فان السينما المصرية كانت مجالا واسعا للرقص الشرقى، قدم نفسه من خلالها لجماهيرها العريضة بشتى الطرق، و فى شتى المناسبات، و خاصة بعد ان امتزج الرقص بالتمثيل ،فى افلام شغل الاستعراض حيزا كبيرا بها ،خاصة عند يكون العنصر الثانى للاستعراض مطرب، مثل الافلام التى شارك فيها فريد الأطرش سامية جمال، مثل عفريتة هانم ،حبيب العمر و اخر كدبة و تعال سلم و غيرها .
و الحقيقة فان الرقص الشرقى كان ملازما للاستعراض، فى عرف السينما المصرية فى غالبية الأحيان، و هو أمر غير مستغرب و غير مستنكر، فالفن الحركى الوحيد الذى كان راساخا فى ثقافة المجتمع المصرى، هو الرقص الشرقى الذى تضاربت النظريات فى تحديد نشأته، و كيفية دخوله الى الثقافة المصرية. فمن قائل بأصوله العثمانية و دخوله مصر مع الفتح العثمانى لها، و من قائل بتسربه الى مصر باختلاطها بحضارات الشرق الأدنى كفارس و الهند، و التى كان بينها و بين مصر تبادل تجارى على امتداد التاريخ، و على الرغم من أن مصر الفرعونية عرفت الرقص بصورة موسعة، الا ان الرقص فى مصر القديمة، كان نوعا من الطقوس الدينية التى تؤدى للألهة ،و كان أشبه بالباليه او الرقص الايقاعى منه الى الرقص الشرقى بشكله المعروف، حتى ان الفرق بين النوعين من الرقص يظهر فى ملابس وحركات الراقصات ،اللاتى ظهرن فى الرسوم على جدران المعابد والتى هى أشبه بالرقص الايقاعى الحديث .
و على الرغم من الغزو الغربى الثقافى ،الذى صاحب الاحتلال الانجليزى فى بداية القرن العشرين، و الذى حرصت عليه بريطانيا لكى تلون المجتمع المصرى باللون الانجليزى، مما أدى الى ظهور الرقص الأوروبى بأنواعه المختلفة، و الذى سرعان ما اختلط و امتزج بثقافة طبقة معينة من المصريين، هم طبقة الأغنياء من ساكنى العاصمة، الا أن المجتمع المصرى ظل متمسكا بالرقص الشرقى، كفن شعبى يعبر عن ثقافة غالبية المصريين ،و كان من الطبيعى ان تعبر السينما ايضا عن هذه الثقافة و تعطيها الحجم الذى تشغله فى المجتمع المصرى، بفقرائه و عماله و فلاحيه بل و أيضا بقاعدة عريضة من أفنديته و مثقفيه .
بدأ الرقص الشرقى تقريبا فى الظهور فى السينما المصرية ،عند تحولها من مرحلة التجربة فى أواخر العشرينيات من القرن الماضى، الى مرحلة الانتاج فى اوائل الثلاثينات من نفس القرن. ففى باكورة انتاج استوديو مصر عام 1935 و هو فيلم " وداد " بطولة كوكب الشرق " ام كلثوم " فى أول افلامها مع احمد علام، و اخراج فريتز كرامب المخرج الألمانى، فى أول افلامه التى أخرجها فى مصر أيضا.يظهر الرقص الشرقى فى المشهد الأول للفيلم ،الذى تدور أحداثه فى العصر المملوكى و الذى يبدأ برقصة لمجموعة من الجوارى، يقدمن نوعا من الرقص يعتبر هو منشأ الرقص الشرقى الحديث، و المشهد يخدم الرواية فهو يقدم " وداد " باعتبارها الجارية المفضلة لدى صاحب القصر و سيدها، و التى تشارك فى الاحتفالات التى تقام بالقصر بصوتها العذب و غنائها الجميل. و فى فيلم "العزيمة" 1939 بطولة حسين صدقى و فاطمة رشدى و اخراج كمال سليم، تظهر رقصة فى سياق مشهدعرس محمد وفاطمة حيث كانت مشاهد الرقص الشرقى فى تلك الفترة من مسيرة السينما المصرية محدودة و داخل سياق الفيلم .
فى الاربعينيات كانت السينما المصرية قد تخطت مرحلة البداية ،الى مرحلة تبلور الفن السينمائى ،حيث صارت لها معالم واضحة، و بدأ الفيلم المصرى فى اضافة عناصر من الجذب بالاضافة الى الدراما ،و هى الأغانى و الاستعراضات و التى بالطبع كان الرقص الشرقى هو حجر الأساس لها. و فى هذا المضمار ظهرن على شاشة السينما فنانات مبدعات ،أضفين صفة الفن الراقى على الرقص الشرقى، الذى كان معروفا قبل ذلك بأنه فن الصالات و العوالم ،اولئك الجميلات المبدعات "كتحيا كاريوكا" و "سامية جمال" انتقلن بالرقص الشرقى من مرتبة رقص الجوارى، الى مرتبة الاستعراض الراقى. وكان لكل منهن مدرسة و منهج فى الرقص .و اضفن الى ذلك موهبتهن فى التمثيل ،فجاءت أفلامهن أعمالا متكاملة، امتزج فيها استعراض الرقص الشرقى الراقى بالقصة و السيناريو الجيد ،فأنتج افلاما سينمائية متميزة، فالرقص الشرقى فيها لم يحولها الى افلام مبتذلة، و لكنه أضاف لها اطارا من الاستعراض الراقى، كان له دور كبير فى نجاحها، فمن منا يتصور فيلما لسامية جمال أو تحية كاريوكا بدون رقصة بديعة، تضفى عليه نكهة من البهجة ،خاصة ان تلك الأفلام كان معظمها أفلاما تنتمى للكوميديا الاجتماعية كعفريتة هانم و لعبة الست .
و لكن هناك ملحوظة يجب أن تسترعى انتباهنا و هى ، هل كل من سامية جمال و تحية كاريوكا راقصة تمثل فى السينما؟ أم انهما اح
و رغم أن كاريوكا كانت راقصة محترفة شديدة البراعة، الا انها لم تستغل ذلك فى اقحام الرقص فى افلامها ،بل كانت الرقصة فى افلامها تاتى فى شكل لمسة من ريشة فنان، يضع الرتوش النهائية ليتم بها لوحة رائعة موحية .و فى " ام العروسة " مع عماد حمدى عام 1963 عن قصة عبد الحميد جودة السحار و اخراج أنور الشناوى، و فيه تجسد تحية دور ربة منزل لا علاقة لها بالرقص نهائيا ،و لا يوجدرقصة لها فى اى مشهد من الفيلم .و مع هذا فهناك افلام قدمتها تحية كاريوكا كان الرقص فيها عنصر اساسى، لآنها كانت تقوم بدور راقصة مثل "لعبة الست" مع نجيب الريحانى عام 1946 و" أحب الرقص" عام 1948 أمام محمد أمين و اخراج حسن حلمى ، "منديل الحلو" عام 1949 مع عبد العزيز محمود و اخراج عباس كامل ، و"سمارة" عام 1956 مع محسن سرحان و اخراج حسن الصيفى، و غيرها مما يعتبر أفلاما غنائية استعراضية ،كان الرقص فيها عنصرا اساسيا ،و لكنه مع هذا لم يتسبب فى تشويه الدراما.وجدير بالذكر أن تحية كاريوكا قدمت للفن ما يقرب من 160 عمل ما بين فيلم سينمائى و مسرحية و مسلسل تلفزيونى .ترفتا التمثيل و قدمتا للسينما عشرات الأعمال القيمة. وهل كان الرقص هو الأساس فى افلامهما؟ ام انه كان عنصرا غير اساسى يوظف فى خدمة الدراما .. فمثلا فى فيلم "شباب امرأة" عام 1956 بطولة شكرى سرحان و تحية كاريوكا ،واخراج صلاح أبو سيف عن قصة امين يوسف غراب، تلعب تحية كاريوكا دور "شفاعات" صاحبة السرجة و هى امرأة لا علاقة بينها و بين الرقص، ولم ترقص تحية كاريوكا الا فى مشهد واحد فى الفيلم لاغواء "امام " الفتى الريفى.. اما شخصية المرأة المتسلطة،و هو دور معقد فقد ادته تحية باقتدار و براعة، و هو ما يظهر بعد ذلك على مدى مسيرتها السينمائية، التى كان الرقص يأتى على هامشها .
أما الفراشة " سامية جمال " فكانت تسير على نفس الدرب .و كان اول ظهور لها على الشاشة الفضية عام 1941 فى دور راقصة فى فيلم "انتصار الشباب" بطولة فريد الأطرش و أسمهان و هو الفيلم الوحيد الذى جمع فنانا عائلة الأطرش " فريد و اسمهان" و الفيلم من اخراج احمد بدرخان .و تستمر سامية فى المشاركة برقصاتها فى السينما حتى عام 1946 حينما تقوم ببطولة فيلم "احمر شفايف" مع الاسطورة نجيب الريحانى ،و فيه تتخلى عن دور الراقصة لتقدم دور الخادمة اللعوب بمهارة فائقة، و يجذب اداؤها فى احمر شفايف أنظار المنتجين اليها، فتقوم ببطولة فيلم "الأحدب" فى نفس العام أمام محسن سرحان و محمود اسماعيل، و تؤدى دور" وداد" الفتاة الخجولة التى يقع فى حبها أخوان ،يعانى أحدهما من عاهة جسمانية، بينما وداد تحب الأخ الأخر، و هو دور يأخذها بعيدا عن الرقص و الاستعراض .
ولكن حبها للرقص و نجاحها فى التمثيل ،يعيدانها الى الفيلم الاستعراضى مرة اخرى فتقدم مع "فريد الأطرش" سلسلة من الأفلام الغنائية الاستعراضية مثل " حبيب العمر" 1947 ،"عفريتة هانم ، "احبك انت" 1949 ،"أخر كدبة" 1950 و غيرها ، و لا تتوقف سامية جمال عند هذا الحد فهى، تقدم للسينما أكثر من ستين عملا كان أخرها "الشيطان و الخريف" عام 1972 مع رشدى اباظة و سناء جميل ،كانت سامية جمال فراشة جميلة ،خلبت لب جمهور السينما لسنوات طويلة ،بخطواتها الرشيقة و هى تتمايل على أنغام الموسيقى تمايل الزهرة فى نسيم الربيع .
"كيتى" الطيف اللطيف الذى ظهر فى العديد من الأفلام، ليغطى الجزء الاستعراضى البسيط الذى كان يضاف الى الأفلام الاجتماعية، كعنصر من عناصر التخفيف او الى الأفلام الكوميدية كاضافة استعراضية محببة .و قد شاركت كيتى اسماعيل ياسين البطولة فى فيلم " عفريتة اسماعيل ياسين " عام 1954 و قد شاركت كيتى باستعراضاتها الراقصة فى ما يقرب من 60 فيلما كان اخرها "العقل و المال" مع اسماعيل ياسين عام 1965 .مثلما كانت كيتى كان هناك أيضا راقصات على درجة عالية من الفن و الرشاقة، حافظن على الرقص الشرقى فى اطار الفن الرفيع الذى وضعته فيه تحية كاريوكا و سامية جمال مثل "زينات علوى "و ببا عز الدين و غيرهم .
"لهاليبو ياوله" كان فيلم لهاليبو عام 1949 هو أحد الأفلام القليلة فى السينما المصرية الذى تقوم ببطولته المطلقة فنانة استعراضية " نعيمة عاكف ". ورغم ان شكرى سرحان كان يقوم بدور البطل أمام نعيمة عاكف ،الا أن الفيلم كان مبنيا على شخصية لهاليبو، و كان دور البطل فيه دور تكميلى .و فى الحقيقة فاننا عندما نعود الى جذور نعيمة عاكف، نجد انها لم تكن راقصة محترفة بالاساس ،بل كانت لاعبة فى السيرك الذى كان يمتلكه والدها، لذا نجد ان الرقص الشرقى فى أعمال نعيمة عاكف، اتى ضمن استعراضات تخللتها حركات بهلوانية، و قفزات طعمت بها اسلوبها الاستعراضى، الذى لم تتخلعنه فى معظم افلامها .
وكان دور الراقصة يلازمها فى غالبية افلامها، اللهم الا الأفلام التى كانت تقوم فيها بدور فتاة ،مثل "بابا عريس" مع شكرى سرحان عام 1950 ، "أربع بنات و ضابط" مع انور وجدى عام 1954. و قد قدمت نعيمة عاكف 26 فيلم للسينما المصرية من اهمها " تمر حنة " مع أحمد رمزى عام 1957 ، "احبك يا حسن "عام 1958 ،فى الحقيقة فان معظمها كان افلاما متميزة، امتزجت فيها خفة الظل مع موهبة الاستعراض مع موهبة التمثيل، لتقدم لنا مجموعة خاصة فريدة من نوعها من الأفلام كان أخرها "أمير الدهاء" مع فريد شوقى عام 1964.
كانت "نجوى فؤاد" امتدادا لجيل تحية كاريوكا و سامية جمال، من فنانات الزمن الجميل. فقد اضافت الموهبة التمثيلية الى الاحتفاظ بفن الرقص الشرقى فى منزلته، الذى وضعته فيها سامية جمال و تحية كاريوكا .و قد شاركت بتبلوهاتها الراقصة فى العديد من الأفلام، كما شاركت بادوار متميزة ايضا فى افلام كثيرة كفيلم" ملاك و شيطان" مع رشدى اباظة عام 1960، و شاركت اسماعيل ياسين بطولة فيلم "اسماعيل ياسين فى الطيران" عام 1959 و قدمت نجوى فؤاد نحو 240 عملا ما بين أفلام سينمائية و مسلسلات تلفزيونية .
هكذا تغلغل فن الرقص الشرقى فى السينما المصرية ،و عبر عن نفسه من خلال العديد من الفنانات، اللواتى يحتاج ذكرهن الى عدة مقالات، واللواتى قمن باثراء الفيلم المصرى الاستعراضى،بل و الكوميدى فى الكثير من الأحيان بتبلوهات راقصة راقية محترمة ،و لكن مع تدهور السينما المصرية، بداية من فترة أفلام المقاولات فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، أصبح مشهد الرقص قاسم مشترك اعظم فى الغالبية العطمى من الأفلام، مقحما عليها بصورة فجة، و كأنما أصبح جزءا اساسيا من السينما المصرية ،التى مع تدنى مستوى الأفلام التى تقدمها، فقدت جمهورها الجاد فصارت الرقصة عامل جذب لجمهور ،لا يهمه المستوى الفنى للفيلم بقدر ما يهمه كم عدد الرقصات فى الفيلم ،و المشاجرات و الصفعات، و المشاهد الساخنة. و مثلما ذهب الفن الجميل ،ذهب معه أيضا الرقص الجميل، و انزوينا نحن الجيل الذى نكب بذلك النظام الثلاثينى المظلم، نجتر فى أسى و اعجاب أيضا رشاقة الماضى و جمال خطوته .