القاهرة 03 سبتمبر 2014 الساعة 11:08 ص
إذا كنا نريد للثقافة المصرية أن تستعيد عافيتها، وأن تعود سيرتها الأولى وتنهض من جديد فعلينا قبل كل شيء أن نسأل أنفسنا عما تعنيه لنا الثقافة، ولماذا نحتاج اليها؟
الكثيرون منا يختزلون الثقافة فى وجه واحد من وجوهها هو الانتاج الأدبى والفني، ويختزلون بالتالى وظيفتها فيحصرونها فى الامتاع والتسلية. والثقافة إذن فى نظر هؤلاء الكثيرين هى ما تقدمه دور النشر ودور العرض من كتب ومسرحيات وأفلام وصور، فإذا تحقق هذا فكل شيء على ما يرام.
غير أن الثقافة أوسع مجالا وأشد خطرا وأعظم تأثيرا من أن تحصر فى مجال واحد من مجالات الحياة الانسانية. لأن الحياة لاتكون انسانية إلا بالثقافة. الانسان بغير الثقافة حيوان. وبها يصبح حيوانا عاقلا أى انسانا. ولأن الانسان يفكر ويعبر ويتذكر ويتصور ويتخيل ويحلم فهو بهذا النشاط يمارس حياته ويعقلها فى آن معا. ولأن الانسان لايعيش بنفسه فقط بل يعيش بنفسه وبغيره، فالحياة انفراد واجتماع. ابداعات فردية من ناحية، وحرف وصنائع وأفكار وعقائد ونظم وأخلاق وعادات وتقاليد من ناحية أخري. الثقافة هى هذا كله. ما يسهم به كل فرد وما نشارك فى انجازه مجتمعين. ما نغير به حياتنا من الأفكار الجديدة والمغامرات الجريئة والأعمال المبتكرة، وما نتأثر به نحن ونتشكل بفضل التراث الذى ننبع منه وننتمى اليه.
باختصار. الثقافة هى الحياة الانسانية حين تتحول الحياة الى صور ورموز وأفكار وخبرات يجب أن نعرفها ونضع أيدينا عليها ونتمثلها لنعرف أنفسنا ونشارك فى صنعها، ولنعرف العالم ونشارك فى صنعه. فهل نحن نعرف أنفسنا؟ وهل نتحكم فى مصيرنا؟
أظن أن النفى هو الجواب الصحيح. وما علينا إلا أن نسأل أنفسنا من نحن لنرى أن الاجابات متعددة مختلفة وربما كانت متناقضة متضاربة أيضا.
نحن مصريون. لكن الكثيرين منا يعتبرون هذا التعريف مجرد اسم، جنسية، كلمة تكتب فى بعض الأوراق الرسمية. فاذا سألتهم عما يعنيه لهم هذا الاسم او عن شخصية مصر احتاروا وتفرقت بهم السبل.
سيقول معظمنا اننا مسلمون. ولاشك أن معظمنا مسلمون. لكن المغاربة أيضا مسلمون، والباكستانيون، والايرانيون، والسنغاليون. ثم إننا لسنا جميعا مسلمين. المسيحيون المصريون يعدون بالملايين.
وبعض المصريين يهود. وبعضهم بهائيون. وبعضهم لا علم لى بعقيدته الدينية لأن العقيدة الدينية شأن خاص. ومصر لم تبدأ حياتها بالمسيحية او بالاسلام. مصر بدأت حياتها قبل أن تظهر الديانات السماوية الثلاث، فى الألف الخامس قبل الميلاد، أى قبل أن يظهر اليهود على مسرح التاريخ بأكثر من ثلاثة آلاف عام. وهم لم يكن لهم تاريخ قبل أن يأتوا الى مصر.
وبعضنا او كثيرون منا يقيسون تاريخ مصر على تاريخ العرب فيعتبرون ما سبق الفتح العربى جاهلية، وهو اعتبار لايستند إلا للجهل بما كانت عليه مصر من تقدم روحى ومادى لاتزال صوره وآثاره وأسراره تبهر العالم حتى اليوم. ويكفى هنا أن نقول إن أهم ما جاءت به الديانات كان عقائد مصرية سابقة على ظهور هذه الديانات. التوحيد، والعالم الآخر، والبعث، والحساب، والضمير، وقيم الخير، والعدل، والحق والجمال.
فإن خرجنا من العصور الفرعونية ودخلنا ما بعدها فسوف نجد أن مصر المقدونية والرومانية والبيزنطية ظلت مرتبطة بأوروبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن السابع بعده، أى نحو ألف عام.
وقد يظن البعض أن الفتح العربى أنهى علاقة مصر بأوروبا وبعالم البحر الأبيض المتوسط، وهذا وهم، لأن الفتح العربى تجاوز مصر الى المغرب والى اسبانيا والى جزر ايطاليا وشواطئها الجنوبية. ويكفى أن نتذكر هنا أن القائد الفاطمى الذى أسس القاهرة وهو جوهر الصقلى كان ايطاليا. وأن الاسكندرية التى أسسها الاسكندر المقدونى أصبحت فى العصور الاسلامية مهجرا مفضلا لفقهاء الأندلس وشعرائها ومتصوفيها.
المرسى أبوالعباس من مرسية، والشاطبى من شاطبة. وكما انتزع الاسكندر مصر من الفرس ومكنها من استعادة استقلالها تحت حكم البطالمة انتزعها مقدونى آخر هو محمد على من الأتراك العثمانيين ومكنها فى هذا العصر من أن تستعيد استقلالها الضائع وتبنى لنفسها دولة وطنية حديثة.
هكذا يجب أن نفهم تاريخنا الحديث. وفى هذا السياق يجب أن نراه، لنعرف أنه لم يكن اضافة مفروضة علينا من الخارج كما يظن الجهلاء والمتعصبون، بل كان عناصر التأمت واتحدت وكان خلايا نائمة عادت للحياة ووصلت الماضى بالحاضر.
لكننا لانعرف تاريخنا لا الحديث ولا القديم. ولأننا نجهل تاريخنا فنحن نجهل أنفسنا. ولأننا نجهل أنفسنا او نسيء معرفتها فنحن نتخبط ونتعثر ونقع فى الخطأ ونكرره لأننا حين نجهل الماضى نجهل الحاضر ونجهل المستقبل. وحين نجهل أنفسنا نجهل غيرنا.
وحين نخاصم المعرفة نخاصم الحياة ونصبح مهددين بالانقراض، إن لم ننقرض بأجسادنا انقرضنا بعقولنا وأفئدتنا، أى فقدنا انسانيتنا وعدنا كما كنا فى العصور السحيقة كائنات تأكل وتتناسل، لكنها وقد جهلت نفسها فقدت نفسها.
نعم. حين نجهل أنفسنا نفقد أنفسنا ونضيع ما اكتسبناه فى تاريخنا العريق الحافل. الروابط التى تجمع بيننا، والدولة التى تمثلنا، والقوانين التى تنظم حياتنا، والثقافة التى تكسبنا شخصيتنا التى بها ننتمى لمصر، وينتمى كل مصرى لغيره من المصريين.
وهذا ليس محض أفكار او نظريات، وإنما أصف الواقع الذى نعيشه فى هذه الأيام وتعيشه معنا الشعوب الشقيقة.
الثقافة المصرية التى ازدهرت خلال القرنين الماضيين، وازدهرت معها الحياة المصرية والحياة العربية كلها فى السياسة والاجتماع والاقتصاد تراجعت فى العقود الأخيرة وفسدت وتراجعت معها حياتنا كلها وفسدت.
نحن فى العقود الأخيرة فقدنا ما كنا نملكه من الحرية، ولهذا فقدنا ما كنا نملكه من القدرة على الابداع والتجديد، وما كنا نملكه من القدرة على الحوار والتفاهم، وما كنا نملكه من القدرة على التآخى والتضامن، وما كنا نملكه من القدرة على التقدم. فاذا أردنا أن نستعيد ما فقدناه فلنعلم أنه لا ثقافة بلا حرية، ولا حرية بلا قانون، ولا قانون بلا دولة، ولا دولة بدون ديمقراطية.
الثقافة إذن ليست سلعا ننتجها ونستهلكها. الثقافة هى حياتنا التى نعيشها كما نكون تكون ثقافتنا, وكما تكون نكون.