القاهرة 01 سبتمبر 2014 الساعة 10:21 ص
بالنسبة إلى البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية تأخذ الفترة الراهنة شكل وسمات موسم الامتحانات. أكاد من فرط وضوح الصورة أرى «العم سام» جالساً في قاعة امتحان وأمامه جدول بأسئلة يتعين عليه الإجابة عليها، ومواقف يتعين عليه أن يختار بينها، وبناء على ما سجله كتابة من أجوبة ومواقف يتقرر الموقع الذي سيشغله خلال السنوات وربما العقود المقبلة. إما أن يتقرر تثبيته في الموقع الراهن، أو يتقرر تخفيض مرتبته وبالتالي
مكانته بنقله إلى موقع أدنى.
أتصوره يمر في حال لا يحسد عليها. أراه وكثيرون غيري في كل الأنحاء منهكاً ومتعباً كإنسان ثقلت عليه الأعباء والهموم. أراه أيضاً وقد أعيته الحيل وتخلت عنه قدراته على الخلق والابتكار فوقف عاجزاً في لحظة الامتحان. لا شك في أن الأسئلة والخيارات صعبة، ليس فقط لأنه لم يتعرض لبعضها من قبل، والبعض الآخر معقد ومركب، ولكن أيضاً لأنه بدأ يفقد في الآونة الأخيرة الكثير من لياقته الذهنية، وهي اللياقة التي كانت في أوقات سابقة تؤهله لاجتياز أشد الامتحانات صعوبة وتعقيداً.
أتخيله أيضاً، وقد تملكته حيرة الطالب أو المتسابق حول اختيار الموضوع الذي يبدأ به الإجابة. بدت الموضوعات أمامه وقد تداخلت، بل وبدت وكأنها جميعاً تعتمد على نوع الإجابة التي يحصل عليها السؤال الأول، أياً كان الموضوع الذي يختاره ليستهل به إجاباته.
تصورت أن تكون الأسئلة على النحو التالي، سؤال يتعلق بالوضع الذي آلت إليه خطة الولايات المتحدة بنقل بؤرة التركيز الاستراتيجي الأميركي لتصبح في أقصى الشرق. كثيرة هي التطورات التي وقعت خلال الشهور الأخيرة، والتي يمكن أن تكون قد تسببت في الخلل الذي أصاب انتظام خطوات تنفيذ خطة التحول نحو الشرق.
من هذه التطورات، ولعله أكبرها وأهمها، النزاع حول أوكرانيا، أو بمعنى أدق، السباق عليها، والاحتشاد الغربي لمعاقبة نظام الحكم في روسيا، ورد فعل الرئيس بوتين المتمثل في إجراءات واتفاقات ضمن المجموعة الأوراسية، في منظمة شنغهاي وخارجها، والموقف الذي اتخذته الصين بدعم روسيا في مواجهة الحصار الغربي. من أكبر التطورات وأهمها أيضاً الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط. هنا تأكدت أميركا من خطورة مأزق الاعتماد على دول عربية حليفة لدرء التهديدات لأمنها واستقرارها وأغلبها نابع من داخل المنطقة. تأكدت أيضاً من شكوك عميقة في قدرة حكومات المنطقة على تدشين استقرار إقليمي متوسط أو طويل الأمد. لم يعد محل شك أو تردد في أن الأمور في المنطقة تدهورت إلى حد لا يسمح لأميركا بأن تدير ظهرها للشرق الأوسط متوجهة نحو الشرق الأقصى أو نحو أي إقليم آخر.
سؤال ثان. ماذا يمكن أن يفعله «العم سام» لصد الموجات الإرهابية ذات الطابع الديني، موجة تهدد باجتياح كل دول المشرق، وموجة زاحفة من وسط أفريقيا جنوب الصحراء والساحل في اتجاه دول شمال أفريقيا لدعم بؤر إرهاب عتيق وبؤر إرهاب وليد، وموجة ثالثة تعشش في مخيلة مسؤولين في أوروبا الغربية تهدد بالوصول إلى بعض عواصم أوروبا وبخاصة لندن وباريس.
يزيد من صعوبة السؤال، تعدد أسئلته الفرعية. أسئلة تتسابق وتتداخل في انتظار إجابات تكاد تكون مستحيلة في ظروف امتحان محدد الزمن وخاضع لقيود وقواعد استثنائية. مطلوب إجابات تتعلق بمصادر هذه الموجات الإرهابية وظروف نشأتها وتركيبتها المتعددة الجنسية واعتمادها أفكاراً بالغة البساطة وبالغة الوحشية. أقول عنها أسئلة فرعية تزيد من تعقيد السؤال الأساسي لأن بعض الأجوبة قد تدين أميركا والغرب، ومنها ما يتردد الآن من تحليلات، ضمن سعار نظريات المؤامرة السائد في بعض العواصم العربية، عن دور أميركا في «تحويل» مسارات الربيع العربي في اتجاه إسلامي، ومسؤوليتها المباشرة عن جهود إجهاض الربيع وثوراته. هناك الآن من يقول إن الثورات لو كانت تركت لحال سبيلها من دون تدخل خارجي ومن دون زج التيارات الإسلامية فيها، لما بلغ الغضب بجيل الشباب في العالم العربي ما بلغه، ولما لجأ عدد متزايد من الشباب إلى الاندماج في الموجات الانتحارية الإسلامية. لو كانت تركت ثورات الربيع تخط أو تعمق خطوات التقدم نحو الحرية والحقوق والعدالة الاجتماعية من دون قمع عسكري أو إرهابي لربما ما كان تنظيم «داعش» ولا أخواته.
سؤال ثالث. عالم عربي شديد الاضطراب. حلفاء أميركا من العرب منقسمون وقلقون ومتشككون. أميركا تعود إلى أفريقيا، متأخرة جداً وبخيلة جداً، وتواجه في أميركا اللاتينية تيارات قديمة كادت تيأس من انتظار ثمار تجربة الانتقال نحو الديموقراطية. أوروبا غير واثقة تماماً من قدرة أميركا على العودة إلى مكانتها في مواقع التأثير في النظام الدولي وفي النظام الغربي وفي النظام العربي. روسيا تخطو خطوات سريعة نحو قومية متشددة وسياسات توسع إقليمي في الداخل الأميركي. انهيار مسلمة تلازمت نشأتها مع ترشيح باراك أوباما للرئاسة قبل ستة أعوام، وهي القائلة بأن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض يعني بالضرورة نهاية عصور التفرقة العنصرية والظلم الاجتماعي في الولايات المتحدة. فقد عادت أميركا، بأحداث فيرغسون وغيرها، إلى أيام كان الظن أنها رحلت ولن تعود.
هذه التطورات الخارجية والداخلية ستكون محل نقاش حاد في الولايات المتحدة عندما تبدأ بعد أسابيع قليلة حملات انتخاب رئيس جديد لأميركا ومعها الانتخابات النصفية للكونغرس. بمعنى آخر، لن تكون رحلة انتخاب الرئيس الجديد في أميركا يسيرة وممهدة. بل إنني لا استبعد أن يكون السباق بين الجمهوريين والديموقراطيين على تقديم مرشح أكثر يمينية وتشدداً في السياسة الخارجية من مرشح الحزب الآخر، ومن أوباما بالتأكيد.
سؤال رابع يخصنا ويخص أميركا في الوقت نفسه، وقد يحسن اعتباره معضلة تحتاج إلى حل وليس سؤالاً ينتظر إجابة. نعرف أن «العرب» يستدعون أميركا للتدخل عسكرياً ضد «داعش»، وأن «العرب» مع غيرهم أقاموا «داعش» وأمدوه بالسلاح ويزودونه بالمال ويسهلون وصول رجاله ونسائه إلى ساحات القتال. مع ذلك يعلن «العرب» أو بعض العرب في مؤتمر القاهرة رفضهم التدخل الأجنبي في ليبيا. هؤلاء العرب أنفسهم أيدوا قرار مجلس الأمن الداعي للتدخل الأجنبي في ليبيا. العرب حريصون على القضاء على «داعش» في سورية وفي الوقت نفسه إزاحة الرئيس الأسد. العرب، أو بعض العرب، مستعدون للتفاوض ـ سراً ـ أو علناً مع الأسد لتنسيق الحرب ضد «داعش». أميركا تقصف الإرهابيين في العراق وتفكر في قصف بعض الإرهابيين في سورية ولن تقصف أي إرهابي في ليبيا.
السؤال الأخير، هل يبدو منطقياً أو معقولاً أن تقود أميركا تحالفاً عسكرياً غربياً تشترك فيه أو تدعمه دول عربية لشن حرب ضد «داعش»، في الوقت الذي تشن فيه الدول العربية الحليفة، أو أكثرها على الأقل حرباً إعلامية شرسة في حدتها ونبرة غضبها، وإن ينقصها ذكاء ويغلب عليها تهور العاجزين، على أميركا متهمة إياها بتدبير سلسلة من المؤامرات ضد استقرار دول المنطقة. المثير في هذه المعضلة أن هذه الحملة يقودها «خبراء إستراتيجيون، ومسؤولون رسميون»، يفترض أنهم مدعوون ليكونوا حلفاء مع أميركا في الحرب ضد «داعش»، فضلاً عن أنهم هم أنفسهم أصحاب الدعوة الموجهة لأميركا للتدخل العسكري لإنقاذ العرب من خطر الإرهاب.
تزداد المعضلة غموضاً وتعقيداً، إذا أضفنا إلى مكوناتها حقيقة أن نظاما إقليمياً عربياً سقط في تداعيات الربيع العربي، وأن المنطقة، في حالتها الراهنة، لا يضبط حركتها ويوجه مساراتها ويربط بين شعوبها نظام إقليمي أو حتى منظومة فكرية متناغمة. المثير أن لا أحد ولا دولة ولا جماعة مدنية في العالم العربي، حاولت أن تنبه القادة العرب إلى خطورة استمرار الوضع على هذه الحال، وتنقل إلى أسماعهم عبارة بسيطة وهي أنه إذا لم يضع العرب لأنفسهم فوراً نظاماً إقليمياً جديداً فسيضعه الآخرون.