القاهرة 20 اغسطس 2014 الساعة 11:38 ص
كان السينمائي الروسي غريغوري إلكسندروف خلال فترة طويلة جداً من مسار مواطنه وزميله الكبير، سيرغاي إيزنشتاين المهني، مساعده الأول. ومعروف أن إلكسندروف لم يتوان، بعد رحيل هذا المعلم عن متابعة عمله، وصولاً الى اشتغاله، لاحقاً، على إعادة إحياء فيلم «لتحيا المكسيك» الذي حققه ايزنشتاين في المكسيك بتمويل أميركي دون ان يتمكن ابداً من استكماله في حياته، حيث ان صراعات وخلافات، كان المخرج الروسي الكبير طرفاً فيها كما كان طرفاً فيها ايضاً الكاتب الأميركي التقدمي آبتون سينكلير الذي انتج الفيلم وكان يريد ان يساعد ايزنشتاين على العمل في اميركا مهما كان الثمن. ومن المعروف ان الكسندروف بدأ عمله مع ايزنشتاين باكراً، إذ كان الاثنان منتميين الى فريق «برولتكولت» الفني الثوري، واشتغلا معاً في المسرح. وعند بداية العشرينات حين قرر ايزنشتاين التوجه نحو فن الصورة المتحركة، كان الكسندروف الى جانبه. يومها كان إيزنشتاين في السادسة والعشرين من عمره، وكان من أول نشاطاته كمخرج سينمائي ان أخرج فيلمه الطويل الأول «إضراب» الذي اعتبر في حينه واحداً من أول الأعمال الثورية الكبيرة في السينما السوفياتية، وإن كانت أعمال لاحقة لإيزنشتاين، وخصوصاً «الدارعة بوتمكين» قد طغت عليه.
> ومهما يكن من أمر، فإن الناقد والمؤرخ الفرنسي جورج سادول، كان يعتبر، دائماً، أن «اضراب» انما كان التمهيد لـ «الدارعة بوتمكين» الذي حققه إيزنشتاين بعده بعام واحد. ولسوف يقول الكسندروف عن «إضراب» الذي كان بالنسبة إليه أيضاً تجربته السينمائية الطويلة الأولى: «لقد كنت مساعد سيرغاي إيزنشتاين في فيلم «الإضراب»، كما إنني مثلت في الفيلم حيث قمت بدور مسؤول عن العمال في المصنع يتسم برجعية حادة وعداء لكل ما له علاقة بمصلحة العمال ما يجعله يتواطأ دائماً مع السلطات ضد العمال. وكان «الإضراب» فيلماً ثورياً، لا رواية فيه، ولا حكاية حب، ولا تشويقاً بوليسياً... كما انه لم يكن له أي بطل آخر غير جماهير العمال، التي نظر اليها هذا الفيلم بصفتها شخصية جماعية. وحقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً جداً. ولئن كان ممثلو فريق «البرولتكولت» الشبان لعبوا في هذا الفيلم مختلف الأدوار، فإنهم بدوا شديدي الاختلاف عن غيرهم من الممثلين المحترفين الذين كانوا يعملون في السينما السوفياتية في ذلك الحين. أما بالنسبة الى ايزنشتاين، فإن فيلم «إضراب» كان، في ذهنه، حلقة أولى من سلسلة أفلام تتناول تاريخ الثورة الروسية وشؤونها. وما لا شك فيه أنه بعد ذلك غيّر مشاريعه وبدل خططه مرات عدة تبعاً للظروف... ومع هذا يمكننا أن نقول ان «الدارعة بوتمكين» شكل الحلقة الثانية، بينما شكل «اكتوبر» الحلقة الثالثة، و«الخط العام» الحلقة الرابعة.
> أما بالنسبة الى الطريقة التي قُدّم بها الفيلم رسمياً، يوم الإعلان عن عرضه للمرة الأولى في موسكو في العام 1925، فإنها أتت على الطريقة التالية، التي من الواضح انها تستكمل أسلوب الكسندروف في الحديث عن الفيلم: «انه عمل فني كبير، ونجاح باهر للسينما السوفياتية». وهو «قطعة سينمائية» في ستة أجزاء، يشكل في حقيقته جزءاً أول من سلسلة أفلام تتناول تطور الحركة العمالية. وهو فيلم أخرجه س. م. ايزنشتاين في صحبة فنانين ينتمون الى المسرح العمالي الأول (برولتكولت). ففي الجزء الأول يطالعنا التمهيد للأحداث التي نراها. وفي الجزء الثاني تُشرح لنا أسباب الإضراب. وفي الجزء الثالث نشاهد المصنع وقد توقف العمل فيه. أما في الجزء الرابع، فإن الإضراب نفسه يتباطأ، بينما نشاهد الأعمال الاستفزازية التي يحاول القيام بها جمع من المندسين على الحركة العمالية بغية إجهاضها والإساءة الى سمعتها، حين تقدّم ألينا بدورها في الجزء الخامس، قبل أن تسفر عن نتيجتها المحتومة في الجزء السادس حيث يسود القمع، ويقوم رجال الشرطة المحلية بهجومهم العنيف على العمال مدعومين برجال البوليس السري وقد تنكروا في ثياب مجموعات من المشردين، كما نشاهد العمال وقد رشتهم قوات القمع بالمياه. ومهما يكن من شأن هذا القمع، فإن الفيلم يرينا كيف ان الإضراب
يأتي بحل مثالي لمشكلة الإبداع الفني المزمنة، لأن البطل والشخصية الرئيسة في هذا الفيلم ليسا سوى الجماهير نفسها...».
> صحيح أن الكلام عن فيلم ايزنشتاين الأول هذا، يبدو اليوم قديماً جداً وقد أكل عليه الدهر وشرب، لكنه في تلك الأزمات الثورية العابقة بالتفاؤل، كان له فعل السحر. ومن هنا حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، ليس داخل الاتحاد السوفياتي وحده، بل أيضاً في أنحاء عدة من العالم، مؤمّناً لمخرجه انطلاقة عالمية ترسّخت عبر افلامه التالية واحداً وراء الآخر، بعدما كانت في البداية - وبفضل «اضراب» تحديداً- مجرد انطلاقة تضعه في خانة الفنانين الثوريين المناضلين. ومن هنا كان على ايزنشتاين ان ينتظر تحقيق فيلمه التالي «الدارعة بوتمكين» قبل أن ينتقل، في نظر النقاد السوفيات والعالميين، الى خانة كبار مبدعي فن السينما.
> ومع هذا، علينا ألا نغض الطرف هنا عن واقع أن معظم الابتكارات الشكلية، والموضوعية السياسية، التي تبدّت صارخة و»تأسيسية» في «بوتمكين»، تجد جذورها في «إضراب» وإن يكن في شكل قليل التنظيم، يتسم بشيء من العفوية، وفي لحظات كثيرة بشيء من البدائية السينمائية ممزوجة بقدر كبير من الخطيّة الثورية التبسيطية ولكن متقاطعة مع لحظات سينمائية تجديدية مدهشة. وإذ نقول هذا، نفكر طبعاً بالتوليف الإيزنشتايني الذي وجد بذوره هنا ودلالاته الشكلية - الفكرية في الوقت نفسه، وهو توليف تجلى خصوصاً في واحد من المشاهد الأخيرة في الفيلم، حيث تعمّد إيزنشتاين، لكي يعطي مذبحة العمال على أيدي رجال الشرطة ورجال الاستخبارات، أن يقيم تزامناً بين مشاهد القمع هذه، ومشاهد ذبح الأبقار في مسلخ. والحال ان هذا الاستخدام الإيديولوجي للتوليف الموازي، والذي سيعود اليه إيزنشتاين مرات عدة في الكثير من أفلامه التالية - وخصوصاً في مشهد قمع مماثل في «الدارعة بوتمكين» نفسه -، لفت الأنظار حقاً، ومنذ وقت مبكر الى أهمية استخدام التوليف (المونتاج) لغايات فكرية دلالية، وليس لغايات فنية
تزيينية وحسب.
> أما «الإضراب» الذي يتحدث عنه إيزنشتاين في هذا الفيلم، فإنه لم يجر في الزمن الذي صوّر ايزنشتاين فيلمه بالطبع، بل في العام 1912، أي أيام الحكم القيصري، قبل الثورة بسنوات، ما يفيد بأن الفيلم سياسي، إنما أتى على غرار «الدارعة بوتمكين» كتبرير لأسباب الثورة ومقدماتها، في زمن كان على الحكم البلشفي ان يقارن بين أوضاع ماضية وأوضاع قائمة، تزداد سوءاً من جراء الأوضاع الاقتصادية وبدأت تثير تذمر الناس، ما دعا السلطات الى البدء بالتوصية على أعمال تذكّر بأن الأوضاع قبل الثورة كانت أكثر سوءاً ولا سيما بالنسبة إلى الطبقة العاملة. ويقيناً أن الفيلم، في هذا المضمار، أدى غرضه، وإن كان - في الوقت نفسه - أدى غرضه الفني بالنسبة الى مخرجه، ولا سيما من خلال مشاهد رائعة ظلت في الأذهان عقوداً طويلة من السنين. ويذكر جورج سادول أهمها: اللقاء في المصنع، الاجتماعات السرية في مستودعات الأدوات، المضربون وقد رشتهم قوات الشرطة بخراطيم مياه الإطفاء، عملاء الأوخرانا (استخبارات القيصر) يهجمون على بيوت العمال حارقين ناهبين... الخ. كل هذا جعل من الفيلم عملاً فنياً كبيراً، إلى جانب بعده السياسي الدعائي.
> وسيرغاي إيزنشتاين (1898 - 1948)، كما نعرف، هو واحد من كبار السينمائيين في تاريخ الفن السابع. ولئن كانت بدايته مع «إضراب» على شيء من التواضع، الذي لم يثر ثائرة السلطات الستالينية، فإن الكثير من أفلامه التالية، وكانت قليلة العدد، ودائماً ثورية الاتجاه، سياسياً وفنياً، في الوقت نفسه، لطالما أغضبت الرقابة السوفياتية، ما جعل حياة هذا الفنان، والمنظّر الأساس في فن السينما عبر كتاباته التي فاق حجمها حجم أفلامه كثيراً، حياة صراع دائم. ومن أفلام إيزنشتاين طبعاً: «الدارعة بوتمكين» الذي يحسب دائماً بين أعظم عشرة أفلام في تاريخ السينما، و»إيفان الرهيب» و»ألكسندر نفسكي» إضافة إلى الأفلام التي ذكرناها أعلاه.