القاهرة 17 اغسطس 2014 الساعة 11:11 ص
هبط المطر في ميعاده السنوي بالضبط في الساعة الثالثة من اليوم الأخير من الخريف، ووضع أبي نفسه وجهًا لوجه أمام خيري شلبي. ماذا سيفعل معه الآن؟ لا جسد له ولا ملامح ولا هيئة مرت أمام عيون الخلق.
لا تقل ذلك، لا تنفخ خدودك أو تضطجع للخلف وأنت تجزم بشيء هكذا، سوف يضحك منك الجميع، سوف يسخرون منك كما تسخر الذئاب من ثعلب سقطت أسنانه حتى ولو لم يخسر حيلته، هو معروف أكثر من الأنبياء في المنطقة حتى أن شيخ الجامع «الدماغ» قال إن الناس تعرف الأنبياء ولا تراهم كما أنها تعرف خيري شلبي ولا تراه، لكنه حاضر في كل حكايات القرية في الأفراح والمآتم وفي وقت زراعة الأرز وضمه ووقت صيد السمك، وما من أحد منكم إلا وصاح عاليًا وهو يسحب شبكته من قاع البحيرة: بركاتك يا خيري يا شلبي، ما من أحد يبحث عن واسطة لعمل أو لعلاج عند طبيب مشهور إلا وقال له آخر: خذ معك خيري شلبي، وما من واحدة عاقر تحلم بدفء الحليب على صدرها أو انزلاق لحم على ساقيها إلا وقيل لها: نادِ عليه ليأتيك، وعلى الأقل وبخاصة في الملمَّات: آه لو كان هنا خيري شلبي، آه..
لا أحد رآه إلا لمحًا، ربما لا يماريه في سمعته سوى الملائكة التي تظهر عيانًا بيانًا للناس ولو في صور شياطين، تسبقها سمعتها بأنها التي تسمع دبة النملة تحت قدمك، ترى ما لا يراه الآخرون، تكتب ما وشت به عينك لصاحبك ولصاحبتك قبله وتسجل عليك ما تحاول أن تخفيه عن نفسك، هو أيضًا صاحب حكايات وروايات.
لا تقل له إنه غير موجود، بل قل ماذا سيفعل أمامه، إنه الآن متجسِّد راسخ في عقول وقلوب أهل المنطقة ظاهر ولو لم يروه رأي العين، إنه الغائب الحاضر.. لا تقل عنه غائبًا، لا تتفوَّه بذلك، ولا تجعل كلامك ينزلق أو حتى يتململ على شفتيك، لن يقبل أحد منك هذا خاصة أبي.
لا تسألني إن كان أب يعرفه حق المعرفة أم أنه صادفه منذ وقت قريب، كل ما أعرفه ويعرفه أنه هو الذي صنعه ذات يوم، وصدَّق الناس أنه موجود، هو من اخترعه كنكتة، كوسيلة، لكنه الآن يطارده في كل شيء صنعه ، لكنه لا يريد التخلص منه ولا يستطيع، اخترعه وعليه أن يصدِّقه، بل صدَّقه فعلاً، ولو لم يفعل لما اقتنع أحد أنه ينام تحت السماء يحرس منطقة لم تكن موجودة من الأساس، منطقة مالحة مظلمة كل أيام الشتاء، فاضت عن خيال الطبيعة لكنها تداركتها في العقود الأخيرة كمن يخترع جيشًا شعبيًا من المتطوعين حين تكون القوات الأصلية على شفا الهزيمة.
هبط المطر في ميعاده السنوي بالضبط في الساعة الثالثة قل، أو الرابعة في اليوم الأخير من الخريف، ووضع أبي نفسه وجهًا لوجه أمام خيري شلبي.
يهبط المطر دفعة واحدة بلا سابق إنذار فتختفي الحياة تمامًا وتبدأ الشياطين في إنزال قواتها، يضرب أبي جبهته، فوصول المطر يعني أن ضيفًا ثقيلاً قد وصل ولن ينزاح قبل ميعاده المقدَّر، سوف يستمر ثلاثة أشهر بلياليها في منطقة الله الأولى، منطقة بلا كهرباء ولا ماء، واقعة بين الجزء الميت من البحيرة والأرض المالحة التي ولدت من عقمها، ينسحب الماء عن البحيرة المالحة فتولد أرض مالحة أيضًا تطرح بشرًا مالحين، تغيب الحياة ثلاثة أشهر بلياليها إلا من نهار قصير قد تسطع فيه شمس خجول، أو ربما هربت من أمها الشمس الكبيرة لتلهو عندنا أو تلهو بنا.
في هذا الجو الذي يستمر فيه الليل ثلثي الوقت يبدو الغمام والضباب سيد الموقف ويحل غبش البحيرة ليصبح هو الضيف الدائم، يطير فوق الرؤوس طيلة الوقت ويخلق قصصًا مغبَّشة تماثله أو تنسج على منواله كأنها يوحي إليها منه ، لكن ضيوفًا جددًا يجدون في هذا الطقس غنيمتهم الكبرى فيتسلَّلون برشاقة إلى المنطقة يحملون معهم جرائمهم الكبرى التي اقترفوها أو فتوحاتهم كما يوقنون، حيث قتلوا مائة قتيل لحساب أحد، أو قتلوا مائة آخرين بحثًا عن ثأر حقيقي أو مزعوم توهَّموه، فعلوا فعلتهم - طاروا مع الريح وتسلَّلوا إلى مكان كل ما يعرفونه عنه أنه المطرح الذي يدلِّل الذئب أولاده فيه جهارًا نهارًا، وأنه لا يمكن لأيٍّ كان أن يطأه بقدمه أو بخُفِّه، ولا يمكن حتى للعفاريت أن تحطَّ فيه ولو تحوَّلت أرجلها إلى أرجل ماعز، فكلُّ رِجل سيتم تعقُّبها تحت ليل حالك ونفوس قتلت وعاثت لكنها خائفة، خوفًا يدفعها إلى إطلاق النار على ريح عابرة في غير وقتها، وعلى عفريت قاده سوء حظه أن يعبر إلى مملكته من طريق خاطئ دخل فيه بالمصادفة وتغيرت وتغبَّرت ألوان إشارات مروره بفعل الغبش المقيم فضلَّ الطريق.
أفقدهم الخوف خوفهم من كل شيء، فصاروا جمادًا ينطق بالنار في وجه أي وجه، وربما قتلهم من الرعب، لعلَّ هذا هو السبب الرئيسي في ضرورة وجود خيري شلبي يوقف جنوناً لا قلب له ، يقلب أبي سيجارته بين أصابع تكاد تتذكَّر ونظرته إلى البعيد، إلى أيام خوالٍ حين حاول أن يقيم مدرسة تلمُّ الناشئين المرشَّحين بقوة الطبيعة ليكونوا قتلةً ولصوصًا، السائرين بدأب على خطى عائلاتهم المجيدة، لكن لا مدرسة لأولاد اللصوص والقتلة من الفئة الأعلى والصنف الأول، لكن لا بأس أيضًا، يكنس الناس تاريخهم ويكتبون تاريخًا آخر يصدقونه هم ليصدقهم الآخرون، ثم إن القتل والثأر أصبحا من التاريخ المجيد حتى لو بدا صحناً يوميًا على طاولات طعامهم، ليتعلَّموا ما دامت صور البنادق محفوظة - تكاد تنطق - في صور الآباء والأجداد على الحوائط ، فليدفعوا من أموال نهبوها حتى ولو كانت بدماء الآخرين، تسابقوا ودفعوا لتأجير غرفة من الجمعية الزراعية تصلح نواة لمدرسة، واشتروا الدكك والكراسي والسبورات وزادوا في الطباشير، لم يبقَ غير المدرسين والطلبة، المدرسون على الحكومة وعليهم التلاميذ، لا بد من ثلاثين تلميذًا، فتشوا كل البيوت وصلوا إلى أطراف أطراف المنطقة ومعهم بنادقهم خوفًا من بنادق الآخرين، لم يصلوا إلى العدد، ببركة دعاء الوالدين من صنف القتلة الكرام انحلَّت العقدة ووصلوا إلى العدد تسعة وعشرين تلميذًا، لم يبق إلا تلميذ واحد، لم يجدوا واحدًا ولا واحدة تصل أو يصل إلى أربع سنوات من عمره أو عمرها ولا ثلاث ولا سنتين، فقط سنة واحدة كأنهم اتفقوا ألا ينجبوا خوفًا من ثأر آخر، واسودَّت الدنيا لكن أبي فعلها، استخرج شهادة ميلاد لشخص غير موجود سوى في قلبه ثم دفع له المصاريف من جيبه واصطاد صبيًا عابرًا والتقط له صورًا، اكتمل عقد الفصل وقامت المدرسة، وحين حضر مدير إدارة المديرية حفل الافتتاح بحضور مأمور المركز وأعيان المنطقة، الحفل الذي تأخر من الثامنة صباحًا حتى الحادية عشرة، والمدير ينفخ والمأمور ينفخ، حتى أتى الفرج تحت غطاء المطر، إذ وصل التلاميذ من قراهم على حمير معتبرة تظلِّل رأس كل واحد شمسية ويحرسه والحمارة حرامي صغير بشارب معقول، كان المدرس ينادي على التلاميذ كل واحد باسمه ليسلم على المدير ثم يجلس في مقعده، إلى أن وصل إلى الطالب الأخير: التلميذ خيري شلبي.. التلميذ خيري شلبي، وأبي يقول بصوت عالٍ: إنه في الحمام، في الحمام عنده إسهال من برد الطريق.
ربما لا يهم ذلك الآن، المهم أنه موجود بإسهال أو من دونه، موجود حتى عند ماكينة الطحين في موسم الحصاد يحضر مع النساء يوم طحن القمح أو دق الأرز يقف حارسًا الأطفال حتى لا يشدهم سير الماكينة، ويوم تأخر- اليوم الوحيد الذي تأخر فيه - أكلت الماكينة الملا ابن محمود بيومي، ابنه الوحيد الذي أتى له على غفلة بعد أن يئس هو وامرأته من الخلف، وغرقا في المودة والجنس ونسيا موضوع الأطفال إلى أن جاء له الملا على غفلة، عرف بالخبر حين كان ينتظر على نار مخاض زوجته وهو يخفي توتره ويخبئ قلقه بسماع الراديو، سماه على اسم الملا مصطفى البرزاني الذي كان أول اسم صادفه في النشرة، حين يحكي الحكاية يقول البرواني لكن أحدًا لا يكترث لأن البرواني كان موصومًا بالعمالة في أحسن الأحوال في الراديو، لكن من الممكن أيضًا أن يكون سبع ليل دوَّخ حكومة البندر مما جعلهم يسبُّونه في كل النشرات، المهم أن الملا ذهب ليلعب مع الأولاد من خلف أمه بعد انتهاء اليوم الدراسي القصير، المرة الوحيدة التي أفلت من عينها وحلا في عين ماكينة الطحين مدت السير لجلبابه فتلقَّفه وسلمه للتروس الجائعة وأصبح الملا في خبر كان مهروسًا تئن عظامه في قلب الماكينة.
لكن سؤالاً مكتومًا كان ينطق في عيون الـجميع، أين خيري شلبي؟ لماذا لم ينقذ الملا، كيف تحمل قلبه أن يغيب في يوم كهذا؟
لا أنوار في الشتاء، بل لا أنوار من أصله، ليل كحل، ومصابيح يدوية بائسة بشريط غارق في الأسى والجاز، مصابيح تطوف في فيلم بالأسود فقط وأيدٍ عاجزة مكلومة تحاول أن تلملم بقاياه حتى لا تنام وحيدة في ليل الماكينة وظلامها ومصابيح أخرى في أيدٍ لا يراها أحد تتقدم وتتأخر عنهم كأنها تشير عليهم.
في الصباح عادوا، علهم يجدون فتات الملا بين التروس التي لم يسعفهم الغبش لاستخلاصها، كان باب الماكينة مغلقًا وماء كثير يجري تحت عقب الباب يغطي المساحة خارجها والناس في حالة عدم تصديق من أين جاءت كل هذه المياه!
وصوت يقول بخجل:
حتى الماكينة التي أكلته بكت عليه.
وأبي يدمع بحرقة وعيون متورِّمة وهو يقول:
خيري يبكي وحده في الداخل.