القاهرة 13 اغسطس 2014 الساعة 02:58 م
كتب :حسام ابراهيم
بقدر ما يراقبالعالم عن كثب استجابات
الرئيس العراقيالجديد فؤاد معصوم للتحديات الجسيمة في بلاده, فإن قصة معصوم
تعيد للأذهان"ظاهرة الرئيس المثقف" واشكاليات العلاقة بين المثقف والسلطة وانتقال
رجل الفكر لموقعالقرار السياسي.
وفي الأصل فإنالدكتور فؤاد معصوم الذي تخرج من جامعة الأزهر في القاهرة باحث سياسي
من أكراد العراقوصاحب اهتمامات فلسفية عميقة, فيما كانت أطروحته للدكتوراه حول
"اخوان الصفا";وهي جماعة من المتصوفة واصحاب العلم ظهرت في القرن التاسع وقدمت
للانسانية ما يعداول موسوعة في التاريخ كما انها اسهمت بعمق في اثراء الموسيقى العربية.
واذا كانت جماعة"اخوان الصفا" قد سعت للتوافق بين الايمان والعقل, فإن فؤاد معصوم
الذي اعلن انهسيكون "رئيسا لكل العراقيين" يطمح من منظور ثقافي لرفع مستوى الوعي
العام ويرفض مثلغالبية مواطنيه اختزال الدين في ايديولوجية سياسية ضيقة, ناهيك
عن التستر وراءشعارات الدين لتحقيق اطماع سياسية او تبرير ممارسات ارهابية وتمرير
مخططات آثمة لتقسيمالأوطان.
ويوصف الرئيس العراقيالجديد بأنه "رجل القوة الهادئة", كما انه "رجل التوافق" بقدر
ما يعد شخصية غيرنمطية تتسم بالجدية والاصرار على تحقيق الأهداف, وهو يجهر بثقته
في قدرة العراقيينعلى الاصطفاف معا لمواجهة تحديات المستقبل.
ومعصوم الذي ولدفي مدينة اربيل العراقية عام 1938 عمل لفترة أستاذا للفلسفة بجامعة
البصرة في جنوبالعراق ويبدو متأثرا بأفكار جماعة "اخوان الصفا كصوت للحكمة والعقل
والاعتدال",كما انه من المناصرين لتعزيز المساواة في الحقوق ودعم فرص مشاركة
المرأة العراقيةفي الحياة العامة.
وفيما يصفه المقربونمنه بأنه "رجل يتمتع بالسلام مع الذات", ولعل هذه السمة النفسية
غير مقطوعة الصلةبأفكار وسجايا جماعة "اخوان الصفا" التي كانت تضم لفيفا من خيرة
كبار المثقفينوالأدباء ولاسيما ذوي الميول الصوفية وكلهم كانوا على درجة عالية
جدا من الثقافةالرفيعة والتقدم العلمي المذهل في الفلسفة والرياضة والفلك والطبيعة
والكيمياء وعلوماللغة والتفسير والحديث, وقبل ذلك علم الكلام وهي شخصيات من
طراز ابي حيانالتوحيدي.
ومن يقرأ رسائلاخوان الصفا يفاجأ بأن رسالتهم في الموسيقى رسالة فذة حتى ان الكاتب
الراحل خيري شلبيوصفها بأنها لم يسبق لها مثيل في الدقة العلمية والوصول باللغة
العربية الى مرحلةمن الشفافية استطاعت بها تقنين ما لا يخضع لقانون.
رسالة "اخوانالصفا" عن الموسيقى- كما قال خيري شلبي- كانت ولاتزال اهم مصدر لدراسة
هذا الفن واستلهامهابداعيا, ومما لا شك فيه ان تلاميذهم ومريديهم ودروايشهم من
الأجيال التاليةقد ورثوا هذا العلم واضافوا اليه وابدعوا من خلاله ووظفوه في خدمة
الروح الانسانيةوتهذيب النفوس اعظم توظيف.
واذا كان الرئيسالعراقي الجديد ينضم لقائمة الرؤساء المثقفين الذين توزعوا على مناطق
مختلفة في العالمفقد تميزت أمريكا اللاتينية بظاهرة "الرئيس المثقف", بل و"الرئيس
الأديب" مثلالكاتب خوان بوش; أول رئيس ينتخب ديمقراطيا لجمهورية الدومينيكان
في نهاية عام1962 بعد رحيل الديكتاتور رافاييل تروخيللو.
فالرئيس الراحلخوان بوش كان من كتاب القصة القصيرة وتمتلك قصصه حسا انسانيا عاليا
ومعرفة عميقة بالطبيعةالبشرية, كما تنسحب الظاهرة على العديد من الساسة في تلك
المنطقة مثل ماريوبارجاس يوسا الذي فاز بجائزة نوبل في الآداب عام 2010 فيما كان
قد رشح نفسه لرئاسةبيرو عام 1990 غير انه خسر معركته الانتخابية حينئذ امام البرتو
فوجيموري.
وفي اوروبا سيبقىاسم الرئيس التشيكي الراحل فاكلاف هافل "امثولة لمعنى ومبنى الرئيس
المثقف",فسواء داخل قصر الرئاسة أو خارجه عاش هافل حياته بصدق, فيما تنطوى تجربة
هذا المثقف التشيكىالكبير الذى فقدته الانسانية منذ اكثر من ثلاثة اعوام على
نوع من الاجابةلاشكالية المثقف والسلطة.
فاكلاف هافل كتبعليه ان يعيش فى ظل النظام الشمولى "كشخصية من تلك الشخصيات التى
ابدعها فرانز كافكاحيث العبث هو الذى يحكم لا القانون والأهواء هى التى تتحكم فى
اقدار البشر لاالعقل والكفاءة".
غير ان هافل لميستسلم لارادة الطغيان وقرر بهدوء وحسم خوض معركة طويلة انتهت بثورة
ضد النظام الشمولىوجاءت بهذا المثقف الكبير لقصر الرئاسة, فيما لم تغير مظاهر
الحكم وأبهة السلطةمن جوهر الكاتب المسرحى المبدع الذى لم يتخل أبدا عن تذوقه للنكتة
كما لم يتخل عنابتسامته المتعاطفة مع الانسان أينما كان او ايمانه بسلطة الكلمة
الصادقة.
وتبدو اشكاليةالمثقف والسلطة جلية وتثار من حين لآخر, كما حدث فى حالة الكاتب والرئيس
التشيكى الراحلفاكلاف هافل الذى تعرض لهذه الاشكالية فى مذكراته التى تناولت
سنوات وجوده فىالسلطة.
وتولى هافل الذىولد عام 1936 ووصف بأنه "قائد الثورة المخملية" منصب الرئاسة مرتين:
الأولى لجمهوريةتشيكوسلوفاكيا منذ اواخر عام 1989 حتى استقالته من هذا المنصب
فى شهر يوليو عام1992 بعد تقسيم البلاد, والثانية عندما اصبح رئيسا لجمهورية التشيك
الجديدة فى عام1993 حيث استمر فى منصبه الرئاسى هذه المرة لعقد كامل.
والطريف ان هافلاعترف فى محاضرة عامة بأنه كلما مر عليه يوم جديد فى الرئاسة كلما
شعر بمزيد من الخوفمن انه قد لا يكون جديرا بهذا المنصب تماما, كما انه كلما جلس
ليكتب خطابا جديدايخشى من ان يكرر نفسه وألا يكون لديه جديد يقوله, ومع ذلك فثمة
اتفاق عام بينمواطنيه وحتى فى الخارج على ان هافل كان رئيسا قديرا كما هو كاتب
ومسرحى عظيم.
واختار هافل عنواناطريفا لمذكراته وهو: "باختصار من فضلك", والتى تعرض فيها لقضايا
شائكة ومثيرة للجدل,من بينها نزاعه مع فاكلاف كلاوس الذى عمل رئيسا لحكومة التشيك
فى فترة رئاستهللجمهورية ثم خلفه فى المنصب الرئاسى, وكان الخلاف بينهما قد
تحول الى قضيةخطيرة شغلت الرأى العام التشيكى فى اول عقد للجمهورية الجديدة بعد
سقوط النظام الشيوعى.
وكخبير له رؤىاقتصادية ومالية ذات ملامح موغلة فى الرأسمالية وكمسؤول عمل كوزير لمالية
تشيكوسلوفاكياقبل ان يتولى منصب رئاسة حكومة جمهورية التشيك-عمد فاكلاف كلاوس
لفرض هذه الرؤىوتشجيع الخصخصة بشدة فى الجمهورية الجديدة, فيما كانت المشكلة
الحقيقية فى التطبيقحيث انتشر الفساد بصورة غير مسبوقة.
وازداد الخلافحدة بين الرئيس الأديب ورئيس الحكومة الخبير وامتد للمجال السياسى عندما
اتجه الأخير للانشقاقعلى "تجمع المنتدى المدنى" كحركة ديمقراطية جامعة تمكنت
بقيادة هافل منالقيام بدور فاعل أثناء الثورة المخملية فى نهاية عام 1989 واقصاء
الحزب الشيوعىالشمولى عن السلطة وتشكيل الحزب الديمقراطى المدنى الذى نال غالبية
فى الانتخاباتالبرلمانية.
كان هافل اكثرليبرالية على الصعيد السياسى ويتبنى كرئيس ثقافة سياسية جديدة ترتكز
على التنوع وحقالاختلاف مع الانحياز اقتصاديا للفئات المحدودة الدخل والمتضررين
من الخصخصة, وكانتشخصيته مختلفة تماما عن شخصية رئيس حكومته; فهو متواضع وخجول;
بينما فاكلاف كلاوسمعتد بذاته ومستعد دوما للصدام مع الآخرين, ومن ثم كان لابد
من الصدام والفراقبين الرجلين.
وبقلم جرىء يدمىخصومه خلافا لشخصيته الخجول- تعرض فاكلاف هافل فى مذكراته التى صدرت
بعنوان "داخلقصر الرئاسة وخارجه" لهذا الخلاف الحاد مع رئيس حكومته; معتبرا ان
فاكلاف كلاوس وفريقهاشبه "بالمجوهرات المزيفة أو الفالصو".
والواضح من هذهالمذكرات ان السياسة شدت فاكلاف هافل بعيدا عن الكتابة والفن كما ان
نفسه كانت مفعمةبالمرارة من كلاوس, وان كان يدرك مقتضيات السياسة والاعيبها ومكائدها,
فانه ككاتب ليسبمقدوره التخلى عن الضمير أو التنازل من اجل البقاء فى السلطة.
ومن هنا فإن هذهالمذكرات تجسد على نحو ما اشكالية المثقف والسلطة وهي اشكالية مطروحة
فى العالم كله,فيما باتت تفرض نفسها على الساحة المصرية مع انخراط مثقفين فى
العمل السياسىودورهم فى ثورة 25 يناير.
ولن ينسى التاريخولا ذاكرة القارة السمراء ان ليوبولد سنجور اول رئيس للسنغال وأحد
أهم المفكرين الافارقةوالاديب والشاعر العالمى الشهير, قد تنازل عن منصب الرئاسة
بمحض ارادته, أماالكاتب والرئيس التشيكى الراحل فاكلاف هافل فيثق فى حكم الشعوب
والتاريخ مهماكانت المغالطات ومكائد الخصوم السياسيين.
كما لن ينسى تاريخالأدب تلك الرسائل التى كان فاكلاف هافل يبعث بها من السجن لزوجته
اولجا هافلوفاوالتى وصفت بأنها "من اجمل رسائل الحب", رغم انه طلقها بعد وصوله
لمنصب الرئاسةليتزوج من ملكة جمال براغ!
وفى تلك الرسائلالتى تحولت الى كتاب بعنوان "رسائل لأولجا" ونشر بالانجليزية عام
1983 تحدث هافلبقلمه المبدع عن عذابات السجن وبشاعة المحققين ونازية السجانين فى
ظل نظام استبدادى,فيما قدر له ان يشرح فى اطروحة بعنوان دال وهو "قوة الذين لا
حول لهم ولا قوة"السبل التى تمكن بها المستضعفون والمهمشون فى ظل النظام الشمولى
الاستبدادى فىالاتحاد السوفييتى السابق من الحاق الهزيمة تدريجيا بنظام اتسم بالجبروت.
ولاحظت مجلة"نيويوركر" ان فاكلاف هافل قضى فى الشهر الذى يتزامن مع الذكرى ال20 لانهيار
الاتحاد السوفييتىمعتبرة ان "هذا البرجوازى الخجول والكاتب المسرحى الماكر
والقليل الكلاموصاحب الدراسات الأدبية والمقالات الثرية", كان من اقوى واهم الأصوات
التى اسهمت فيتقويض دعائم الاستبداد واسقاط المنظومة الشمولية الشيوعية.
وواقع الحال انفاكلاف هافل اعتبر سلطته كرئيس وكمثقف مسؤولية جسيمة حيال مواطنيه
فى المقام الأول,فكان نسيجا وحده بين المثقفين والساسة حتى قضى بسرطان الرئة الذى
اصيب به منذ عام1996 وها هو الرئيس العراقي الجديد فؤاد معصوم يتحدث بلغة قد تعيد
للأذهان مفرداتهافل وتجربته بقدر ما سيكتب صفحات جديدة حول علاقة المثقف بالسلطة
وظاهرة "الرئيسالمثقف".