القاهرة 17 يوليو 2014 الساعة 11:18 ص
ما الذي حدث ليأتي المسلسل التاريخي "سرايا عابدين" خالياً من التاريخ.. ومن الجغرافيا.. ومليئاً فقط بحكايات الخدم والجواري واطلالات الخديو اسماعيل وتعليمات والدته خوشيار باشا..؟ وما الذي حدث حتي تتجاهل المؤلفة هبة مشاري كل ما تحمله هذه الفترة من أحداث ومفارقات ونهضة وأعمال قام بها هذا الخديو. وأيضاً صراع مع ممثلي الدول الأجنبية في مصر. ثم. ما العيب في تقديم التاريخ نفسه مادام مهماً إلي هذا الحد والاكتفاء منه بصورة القصر والملابس والديكورات المعبرة عن البذخ والابهار؟ وما ضرورة أن تكتب علي عمل فني أنفق عليه الكثير. جداً جداً. مستوحي من أحداث حقيقية. بدلاً من تقديم هذه الأحداث نفسها.. هل خافت الكاتبة من مقارنة عملها بمسلسل "بوابة الحلواني" الذي تناول فيه محفوظ عبدالرحمن شخصية الخديو اسماعيل وعصره في دراما رائعة من ثلاثة أجزاء أخرجها أحد كبار مخرجي التليفزيون وقتها. المخرج ابراهيم الصحن. وقام بدور الخديو فيها الممثل القدير محمد وفيق.. حاولت أن أعرف دوافع الكاتبة لكتابة هذا العمل وتجاور كل الحقائق التي تتضمنها وثائقه. سواء عن الشخصية المحورية. أي الخديو "الذي أداه الفنان السوري قصي الخولي" أو الوالدة باشا خوشيار "يسرا" ثم نساء الدرجة الأولي "الزوجات" ونساء الدرجة الثانية "الجواري" ونساء الدرجة الثالثة والرابعة "الخادمات اللواتي يستطعن التنكر والاختفاء وسلوك الطرق السرية للوصول إلي فراش الخديو كما فعلت وداد "غادة عادل" التي أصبحت "شمس" والتي ماتت مسمومة في الحلقة "17". ما الذي يريد "سرايا عابدين" أن يقوله لنا هل قال شيئاً مهماً وحقيقياً عن تاريخ القصور الملكية مثلاً.. هل تحدث عن أحلام هذا الحاكم الذي كان أكثر حكام الأسرة العلوية مقدرة علي الانجاز بعد محمد علي مؤسس هذه الأسرة..؟ لا شك أن ظل "حريم السلطان" كان موجوداً في مشروع الكاتبة وفي أسباب الموافقة علي انتاج المسلسل بدون أية مراجعة تاريخية تحقق التوازن بين الحقائق وبين الخيال الدرامي.. ولا شك أيضاً أن عناصر الجاذبية توافرت في "المشروع" لدي الشركة المنتجة. ولدي المخرج عمرو عرفة فيما يسمي "دراما الحريم" وما تخلقه من صراعات في كل مستوي. فنحن طوال الحلقات الماضية لم نر فقط نظام الخديوي في علاقته بحريمة ولكننا رأينا أجزاء من علاقات الخدم بالخادمات. ومن مؤامرات الحريم علي بعضهن البعض في رواق الجواري حتي لا تصعد واحدة جديدة إلي فراش الخديو. كما رأينا الأم المتسلطة التي تتحدث وحدها لغة ولهجة لا يشاركها فيها غيرها. لكنها. أي لغة الأم خوشيار بأسلوب يسرا. تثير الضحك والتذكر بأنها ربما تكون وحدها التي تنتمي إلي التاريخ في هذه المجموعة البشرية كلها التي تتحدث اللهجة العامية المصرية وكأنها تعيش في أحد قصور وفيلات مصر الحديثة الآن.. حتي الخديو صاحب مملكة الحريم. يبدو رقيق المشاعر حلو الكلام يعاني من توزيع نفسه ووقته. ويبدو أحياناً طفلا عنيدا وهو يتابع ما يفعله شقيقه مصطفي "خالد سرحان" من تجسس عليه..
من "بوابة الحلواني" إلي "فوق .. وتحت"
* في مسلسل انجليزي شهير عرضه التليفزيون المصري زمان بعنوان "الناس اللي فوق.. والناس اللي تحت" كانت ملامح الدراما واضحة فيه وهو أننا نري الأحداث من وجهة نظر الخدم الذين يعملون في قصور السادة والأمراء.. وفي "بوابة الحلواني" كان التناول الدرامي واضحاً أيضاً وهو أننا نري الأحداث من وجهة نظر الخديو وعائلته وشقيقه اسماعيل المفتش. مقابل وجهة نظر أخري للشعب المصري في ذلك الوقت الذي ذهب ابناؤه لحفر قناة السويس.. أما في "سرايا عابدين" فنحن لا نعرف وجهة نظر العمل. وهل تنطلق مثلاً من "رقة قلب" الخديو الذي يحاول العدل بين زوجاته ويبكي لفقدان طفله ويتآمر مع نظلة خالته "كارمن لبس" ليخفي هروبها من سائس تحبه.. هل هو عمل عن مؤامرات القصور والعروش والسادة والخدم.. وما هو الجديد الذي يميزه عن أعمال كثيرة سابقة كان لديها ما تقوله؟ هل هو عمل عن الفساد القديم المتجدد.. وما هو الجديد في هذا؟ الحقيقة أن وهج الصورة في الحلقات الأولي. ووجود عدد لا بأس به من نجوم التمثيل. وصورة القصر وديكوراته التي ابتلعت الشاشة. وحركة الخدم والملابس جذبت المشاهد في البداية إلي العمل. لكنه ظل منتظراً أن يجد القصة أو الحدث أو السيناريو الذي سوف يكمل معه المشاهدة حتي النهاية.. ومازال ينتظر.. أن تحمل هذا.. فحتي الابهار له حدود..
من هو المعلن .. ومن هو المشاهد
* لا يوجد في أي مكان آخر في العالم هذا التناقض الواضح من خلال إعلانات التليفزيون إلا في مصر حيث تحولت الإعلانات إلي حرب غير معلنة بين الفقراء والأغنياء. وللأمانة فإنها ليست المرة الأولي لهذه الحرب ولكن هذا يحدث من سنوات ولكن بدون هذه المغالاة في الإعلان عن الثراء.. وعن الفقر.. ففي الوقت الذي تتزايد فيه مساحات إعلانات المناطق السكنية الجديدة في أماكنها والتي نراها وكأنها حلم بمساحات الحدائق والممرات التي يسير فيها الصغار والكبار. إضافة للجديد. وهو حمامات البخار التي يرتادها الرجال فقط "ربما من أجل الرقابة" ثم الحمام علي الطريقة الجديدة كذا.. كل هذا كان موجوداً في رمضان الماضي لكن الإضافة الجديدة له هذا العام هو ظهور الرجل الأخضر الوحشي الذي يمارس العنف والبلطجة في الشوارع لأنه لا يتحمل الضوضاء ولا الزحام فيضرب الناس فيأتيه صوت المعلن الهمام محرضاً له علي ترك كل هذا القرف والذهاب إلي منطقة كذا حيث الجمال والهدوء وحمامات التدليك.. بالطبع يعرف المشاهد غالباً أن الجزء الناقص من الإعلان هو الفاتورة أي ثمن السكن في هذه المناطق الجميلة الرائعة. وهو ما لا يقال أبداً وبأي حسبة. وبالتالي تتحول هذه الإعلانات إلي ما يشبه اللغة السرية. أو الشفرة بين معلنيها وبين الأثرياء في هذا البلد. لكن أن تتحول إلي إعلانات عدائية وعنصرية ضد الآخرين فهذا هو المرفوض. فقد أصبحت بالفعل عبئاً علي أغلبية المشاهدين. عبئا نفسيا قبل أن يكون مادياً. وشعورا متجددا بالإهانة لما تحتويه من "معايرة" بسوء حال الشوارع وازدحام المرور وارتفاع الضوضاء والانفلات.. اضافة إلي الأسوأ وهو طبقية بغيضة وعنصرية تجاه الغلابة وهو ما يقدمه تحديداً إعلان يخرج فيه رجل أخضر وحش قادماً من بين صفوف السيارات المنتظرة ليجد فلاحاً يحاول دفع حماره الذي خرن وتوقف عن السير.. الأخضر يقبض علي عنق الفلاح ويقذفه إلي أعلي وكأنه حشرة بينما يشهد الحمار المنتظر غير عابئ.. مع أن المنطق والواقع يقول ان سوء تنظيم المرور وتجاور الحمير مع السيارات مع النقل هي مشكلة دولة وحكومة.. لكن المعلن لا يقترب من الحكومة بالطبع. وإنما يقتص والمواطن الغلبان صاحب الحمار بوحشية فأي عنصرية هذه تطل علينا من هذه الإعلانات؟.. ومن الذي اخترع صورة هؤلاء الخضر أو "استلفها" من الكتالوج الأمريكي القديم؟ وهل من حق أي معلن أن يقدم أي شيء بلا مراعاة لأحد؟ أننا قد نلاحظ مثلاً حملة المشروب الغازي الشهير التي تظهر فيها شخصيات من كل الأعمار في محاولة لأضفاء لمسة إنسانية علي عملية تجارية. لكنها لا تسئ لأحد. كما يحدث في هذه الإعلانات التي تنصح الناس بالهرب من البلد اللي فيها إلي حيث الاسترخاء والجمال والدلع.. هناك أيضاً إعلانات لا يمكن قبولها حتي لو جاءت من نجم في حجم "هاني رمزي" وهي إعلانات الملابس القطنية التي خاصمتها الحساسية وفهم تقاليد الشعب المصري التي تسري علي الرجال والنساء معاً.. وقد بدأ عرض إعلانات عن نفس السلعة بفريق آخر ياليتها تكون بديلاً عن الأول وليست لمجرد التنويع..
وإعلانات المساعدة
* أما الإعلان عن جمعية "صناع الحياة" التي تتيح الفرص للشباب والأطفال المتسرب من التعليم لاستكمال تعليمه بانشاء مدارس فهو عجبة.. فهل لابد أن يكون الشاب المتسرب من التعليم فاقد الأدب والأخلاق وسيئ المعاملة لوالدته حتي ندرك أهمية عمل هذه الجمعية؟.. وهل هدف "صناع الحياة" بناء الإنسان أولاً أم المدارس كما يركز الإعلان.. وهل يغفر الهدف النبيل اظهار المستهدفين من المساعدة بهذه الصورة المتدنية؟
* نأتي إلي إعلانات الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي كثرت بشكل غير مسبوق. والتي تخلت عن الإعلان عن رسالتها بشكل عام ومناشدة المجتمع مساعدتها لتتوجه إلي المشاهد مباشرة من خلال عرض حالات لبشر حقيقيين بأسمائهم وشخوصهم تطلب العلاج لهم.. مشكلة هذه الإعلانات أنها تؤثر في البداية ثم ينحسر تأثيرها مع مرور الوقت. بل قد يفضل كثير من المشاهدين تجنبها وتجنب رؤية رجال ونساء وأطفال يطلبون المساعدة علي هذا النحو الذي قد يسئ إليهم إنسانياً وهي مسألة شديدة الحساسية لابد من بحثها في ضوء تصاعد عدد المرضي وعجز أغلبهم عن العلاج وعجز الدولة.. فهل ظهورهم علي الشاشة هو الحل؟ أم أن تقديم إعلان جيد بشكل فني "مثلما يحدث مع مؤسسة 57357" هو الأفضل.. وإلي متي تنقسم الشاشة هكذا بين إعلانات الأغنياء وبين إعلانات الفقراء والمرضي.