القاهرة 30 يونيو 2014 الساعة 04:00 م
منذ ثلاثة أيام فقط لا غير أدركت، بعد هذا العمر الطويل، سر إصرار أهلنا في الريف أيام زمان على الشقاء!!
كانوا يستيقظون قبل الفجر في كل فصول السنة، ويروى أن بعضهم كان يصحو قبل الفجر بساعتين أو ثلاث، فلم تكن لديهم كهرباء، ومن ثم لا راديو ولا تليفزيون ولا حتى لمبة مضاءة.. وكانت الإضاءة لدى الغالبية هي "اللمبة" المصنوعة من الصفيح، ويبرز من أعلاها شريط من القطن المبروم السميك ليشفط الكيروسين من جوف اللمبة، وتمتد الشعلة مكللة بدخان أسود كثيف يسد الأنف ويعمي العيون، وإذا وضعت اللمبة في "الطاقة"، التي هي فتحة داخل الجدار، تكون من دخانها طبقات من الهباب يمكن أن تتحول إلى "حبر" أسود إذا ما خلطت بماء أو بالبصاق داخل قنينة زجاجية صغيرة يمتد داخلها القلم المصنوع من نبات "البوص"، وأحيانا "الغاب" "البامبو"، ولكل قلم سن يتغير مقطعه حسب الخط الذي يكتبه فـ"قَطَّة" ـ قاف مفتوحة وطاء مفتوحة مشددة ـ الرقعة غير "قطَّة" النسخ، وكلاهما مختلف عن الذي سيكتب به الثلث!. أما البيوت شبه المستورة فتقتني لمبات زجاجية لها أرقام "نمرة خمسة ونمرة عشرة"، معقدة عن أم شريط إياها، لأنها يمكن زيادة إضاءتها أو تخفت ولا ينتج عنها دخان، لأن شريطها داخل زجاجة جميلة الشكل، أما البيوتات شبه الميسورة والميسورة فتقتني لمبات "نمرة ثلاثين" أو "كلوب" يتوهج ضوؤه وينير مساحة كبيرة!
ولقد أدركت مرحلة اللمبة أم شريط، وتعلمت أن أمضي بها في الظلام الدامس، فإذا هبت الريح رفعتها إلى أعلى وخاطبتها بالعبارة التي تعلمتها من أولاد عمي الأكبر مني: "جوزتك للهوا.. والهوا ما بيتجوزشي"، أي زوجتك للهواء رغم أن الهواء لا يتزوج، وذلك كي لا تنطفئ ويبدو أن ثمة حكمة فيزيائية أو هندسية أو غيبية، لا أعرفها، كانت تكفل بقاء الشريط مشتعلا واللهب يتراقص مع اتجاه الهواء دون أن ينطفئ! وأدركت اللمبة الزجاجية بدرجاتها وأدركت الكلوب في رمضان وكم تلسوعت أصابعي عندما كنت أتلقى الأمر بإعطاء "الكلوب" نفسا بكبس الكباس في الخزان!
أرجع مرجوعي لحكاية الإصرار على الشقاء التي عرفت سرها منذ ثلاثة أيام، ولكن قبل الرجوع أحب أن أذكر ألوانا من المسلكيات التي صارت منقرضة تقريبًا!
كانت الدور الفلاحية تضم عائلات متعددة الأسر تجمعهم في غرف متجاورة ومتقابلة، تطل على وسط الدار الذي يؤدي إلى سلالم السطوح ويؤدي إلى زريبة البهائم كما يؤدي إلى المرحاض، الذي عادة ما كان يكمن أسفل السلم، وكثيرا ما كان وسط الدار يضم بئرا أو طلمبة مياه "حبشية"، وفي ركن من الأركان يستقر "القدح"، وهو كتلة من الجرانيت أو البازلت محفورة فيها حفرة محدودة عميقة توضع فيها مكونات الكفتة والكباب الفلاحي المصنوع من خلطة الأرز واللحم والبهار، وتدق بخشبة غليظة قصيرة اسمها "الجلبة" ترفعها المرأة إلى أعلى وتهوي بها على الخلطة داخل الحفرة، وهي تصدر نداءً تستجمع به عزيمتها للضربة التالية: "للنبي هبّا.. هه.. للنبي.. هبّا هه"! وكثيرا ما كانت تلك الكتلة الحجرية قطعة أثرية، لأن النقوش المصرية
القديمة كانت تظهر على أطرافها وحوافها، كما أن أغطية زلعات السمن كانت رؤوس تماثيل!
ولأن الغرف متجاورة ومتقابلة كانت الأنفاس معدودة والعيون مفنجلة، وكثيرا ما كانت تدب المشاحنات بين "السلايف"، جمع سلفة، وهي زوجة شقيق الزوج، فترشق إحداهن الأخرى بأنها "صناتة" من التنصت، وكان الحياء يستبد بالأبناء الذكور المتزوجين، الذين كان بعضهم إذا أحدث حدثا أكبر وصار جنبا فإنه يتسلل تحت جنح ظلام قبيل الفجر، في عز زمهرير طوبة إلى أقرب ترعة شبه جافة إلا من مقاميق مياه محدودة أو إلى ميضأة المسجد الكبير ليتطهر من جنابته، ويحرص على ألا يشعر به أحد خاصة أبيه.. ورغم أن للجنابة أحكامها في الفقه، إلا أنني وحتى الآن لا أعرف لماذا كانت الجنابة جرما كبيرا عندهم، فيحرصون على عدم المشي كثيرا وعلى عدم مصافحة الكبار، بل كان من كرامات سيدنا الشيخ بصيلة أنه كان ببصيرته الإيمانية يعرف من أصابته الجنابة، وذات مرة تقدم فلان ابن فلان ليصافحه ويقبل يده ضمن طابور المصافحين، فإذا بسيدنا يعنفه ويأمره أن يلقي بنفسه في الترعة من فوره ليتطهر من النجاسة!... وهكذا كانت الجنابة توصف بأنها نجاسة!
سرحت بعيدا ولكنني أظنها سطورا في الموضوع الذي ليس سياسة ولا اقتصادا، وأرجع مرجوعي للسر إياه.. فقد كنت أتفرج بالصدفة على نشرة الأخبار في إحدى القنوات، ثم نفذ إلى مسمعي ما جعلني أركز، وهو خبر عن التعرض للشمس، ولم يكن جديدا أن أسمع أنه قد يجلب سرطان الجلد وكرمشته إلى آخره، أما الجديد الذي كان من وراء كل هذه السطور فهو أن الخبراء اكتشفوا أن كثرة التعرض للشمس يسبب الإدمان، لأن الأشعة تحت الحمراء تثير إفرازات مادة كذا، التي يتعود الجسم على إفرازها وتسبب له إحساسا بالمتعة، وبالتالي يعمد الكائن الحي إلى التعرض للشمس، وقد أجروا تجارب على الفئران فثبت لهم ذلك! هنا عادت بي الذاكرة إلى الشقاء الفلاحي تحت الشمس، وكيف كان أهلنا لديهم ثلاثة ألوان لجلودهم، فالوجه والقفا والرقبة وقبضة اليد وجزء من الساعد والساق إلى الركبة لونها بني غامق!! أما أعلى الصدر وبقية الساعد حتى ما فوق الكوع فلونه بني فاتح.. وبعدها يأتي لون الجلد الطبيعي لصاحبه وهو أسفل الصدر والبطن وأسفل الظهر، فهي إما بيضاء أقرب للون القلقاس أو قمحية لون الحنطة!
وكانت الوجوه تملؤها الخطوط التي تتقاطع فتشكل أشكالاً منها المعين والمربع والمستطيل وشبه المنحرف! وخاصة في منطقة القفا ـ خلف العنق ـ والجبين والمساحة بين فتحة العين وفتحة الأذن!، وكان أهلنا يرددون مقولة شعبية عجيبة: "اللي يحمي من البرد يحمي من الشرد"، أي أن الملابس التي تحمي من برد الشتاء تحمي من قيظ الصيف، ولذلك لم يكونوا يفرطون في ارتداء طبقات الملابس نفسها صيفا وشتاء.. ويبدو أن السر من وراء ذلك يكمن في أن الملابس الكثيفة تمتص العرق، وتتلقى الحرارة الخارجية فيتبخر العرق بفعل هذه الحرارة ويحدث "التكييف" الطبيعي!
كانت الشمس إدمانا.. نعم، ولكن ليس بطريقة "ولاد اللذينا"، الذين يذهبون ويخلعون ويتمددون لأخذ اللون النحاسي ليزداد جمالهم وتزداد فشخرتهم، ويدفعون الآلاف للمراهم والكريمات واللوسيانات وللفنادق وللشواطئ وللخدم وللشراب والطعام، وكله من أجل شوية لفحة شمس لجلودهم، ولكن إدمان أهلنا كان من أجل اللحاق بأقلام ملائكة الرزق، قبل أن يرفعوا أقلامهم من كشوف التوزيع، التي تغلق قبل طلوع الشمس!.. وكان إدمانهم من أجل تحديد الزراعة وفق مسار الشمس، فخطوط الغيط تخطط "مبحر.. مقبل".. أي من الشمال للجنوب، فالبحري هو الشمالي والقبلي هو الجنوبي، كي يكون جانبي الخط مشرق مغرب، فالذي يواجه سطوع الشمس من مشرقها حتى تميل هو الوجه الذي يبذر فيه المحصول الرئيسي، أما الجانب الغربي الذي تميل الأشعة عند مواجهته حتى الغروب ففيه يبذر المحصول الثانوي.. وكان إدمانهم للشمس لأن، "النهار له عينين"، وتقدر تشوف مواطئ قدميك ولا أحد يستطيع أن يهاجمك أو يسرق بهائمك والشمس طالعة، ناهيك عن أن العفاريت، وكانت ما أكثرها ونحن أطفالا وصبية، بل وشبابا يافعين لا تطلع أثناء طلوع الشمس اللهم ساعة "القيالة"، التي تتعامد فيها أشعة الشمس بقسوة على الأرض ومع نقاء الهواء تبدأ الأشعة في الانكسار، الذي تراه العين موجات من اللهيب الأصفر تمضي من وراء بعضها، وكنا نسميها "القيالة الحمرا"، التي تظهر فيها "غنم إبليس".. ولم تكن غنمه سوى تلك الموجات
المتكسرة في الهواء!
أدمن أهلنا الشمس فبنوا المعابد بعبقرية هندسية، كفلت دخول الأشعة في الوقت المحدد كل سنة باليوم وبالساعة وبالثانية!!.. وأدمنوا الشمس فاتخذوها إلها "آتون" وجعل منها إخناتون قاعدة للتوحيد، ولكنه اتجه لوجود شمس عليا وأخرى وسطى وثالثة دنيا، وهو ما يقترب بطريقة أو أخرى من السموات الدنيا والأعلى والأكثر علوا!
وسأتوقف لأنني سأدخل في حكاية أخرى ربما أرجع مرجوعي لها فيما بعد!
و"للنبي.. هبّا.. هه".. أسأل الله القوة لتجهيز الوجبة المقبلة على هذه المساحة، وليس عيبا أن أعترف أن الكفتة الفلاحي أُم دمعة حمرا، والكباب الفلاحي الذي هو من الأرز واللحمة والخضرة والبصل والبهارات ومعها الأرز المعمر بالحمام، وخاصة قعره البني الفاتح وحشوني.. ونظرة يا أم هاشم!
a_algammal@yahoo.co.uk