القاهرة 15 مايو 2014 الساعة 11:50 ص
سبق الحديث عن كتابي "مجلس الدولة والخصخصة الفاسدة" و"الحركات الاسلامية في البلاد المصرية" اليوم موعدنا مع الكتاب الثالث الذي كدت أؤجل الحديث عنه وأعتذر عن عدم الكتابة لأسباب شخصية مازلت أعيشها بكل ما تحمله لي من آلام ومعاناة غالبت ترددي لعل في الكتابة بعض الدواء والعلاج انها علي الأقل تأخذ المرء من معاناته. دفعني إلي ذلك اهتمام كبير ليس بكتاب اليوم فقط بل بالكتب الثلاثة فهي جزء من قضايا مثارة حاليا وهي جديرة بأن يجري حولها حوار ثري وعميق لم يحدث شيء من هذا إلي الآن فهل يأمل المرء أن تفتح هذه الاشارات السريعة الباب لما تستحقه هذه الكتب وأمثالها من اهتمام لا يزال يفتقد إلي اليوم صحيفة اسبوعية متخصصة في عرض الكتب ومناقشتها وليس مجرد تلخيصها.
كتاب اليوم قد يدخل في باب الحركات الاسلامية ولكنه يتناول حركة مثيرة ذات طابع خاص أثار حولها ولا يزال كلاما كثيرا يتصدي الأستاذ عبدالله الفكي البشير وهو مواطن سوداني يعمل في وزارة الخارجية القطرية لفتح صفحات هذا الكلام بتفصيلات وعمليات توثيق دقيق لحياة المفكر والسياسي محمود محمد طه وبشكل وقدر لم يفعلهما أحد من قبل سواء في حياة هذا المفكر أو بعد اعدامه في يوم الجمعة 18 يناير عام 1985 ومن المفيد أن يشار إلي أن هذا الكتاب وعنوانه الأساسي "محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ" صدر هنا في القاهرة عن دار "رؤية" التي أصدرت أعمالا سودانية أخري قد تعيدنا إلي خمسينيات القرن الماضي حينما كانت الكتب السودانية تطبع في القاهرة لتقرأ في الخرطوم ومنها تصل إلي باقي أنحاء السودان ولعل دواوين أهم الشعراء السودانيين طبعت في القاهرة أولا إلي أن سحبت بيروت البساط من تحت أقدام عاصمة مصر والعروبة.
تقصير مصري تجاه السودان
ان المتابعة المصرية للسودان فكرا وثقافة وأدبا لا تزال قاصرة إلي أبعد الحدود فهل تكون المطبوعات السودانية في القاهرة في السنوات الأخيرة بشري بميلاد جديد يوثق رابطة الفكر والثقافة والأدب بين مصر والسودان؟ أتمني هذا وأنتظره ولعل الكتاب الذي بين أيدينا يكون من مقدمات هذا حتي نخرج من الحال التي أشار اليها المفكر حسين أحمد أمين الذي رحل عن عالمنا مؤخرا حيث كتب في 1994 أي بعد حوالي عقد من اعدام محمود محمد طه في تقديمه لكتاب سوداني ترجمه من الانجليزية "كتب يبدو ان المصريين قد اعتادوا واستمرأوا فكرة أن تكون بلادهم مصدر الاشعاع الفكري في العالمين العربي والاسلامي ذلك ان القليل من مثقفيهم هم الذين يلقون بالاً إلي الثمار الفكرية في الأقطار المحيطة بقطرهم أو يقدرون الضرر الذي سينجم حتما عن هذه العزلة وهذا الاغفال وها قد مضي أكثر من ربع قرن "حين كتب حسين أمين هذه الكلمات" علي ظهور كتاب في السودان هو كتاب "الرسالة الثانية من الاسلام" للشهيد محمود محمد طه الذي أعده أهم محاولة ينهض بها مسلم معاصر لتطوير التشريع الاسلامي والتوفيق بين التعاليم الاسلامية ومقتضيات المعاصرة دون أن يحظي في مصر أو في بلد اسلامي خارج السودان علي حد علمي بالاهتمام الذي هو أهل له ودون أن نلمس له تأثيرا في اتجاهات مفكرينا ومثقفينا وجمهور شعبنا رغم احتوائه علي فكرة ثورية لا شك عندي في قدرتها متي ما صادفت القبول لدي الرأي العام الاسلامي علي أن توفر الحلول لمعظم المشكلات التي تكتنف موضوع تطبيق الشريعة في اطار اسلامي".
في أزمات السودان والفكر الإسلامي
كلام مهم من كاتب مهم ظلموه وحاصروه فلم يعط كل ما كنا ننتظره منه. ولعل صدق كلمات حسين احمد أمين يبدو علي وجهه الصحيح حين نقف أمام واحدة من القضايا المهمة التي تصدي لها الفكي البشير وهي قضية ذات وجهين الأول ان فهم أوضاع السودان الراهنة لن يتجلي علي وجهه الصحيح إلا حين نقرأ كاملا أعمال ونضال ومواقف محمود محمد طه وجماعته أو حزبه "الاخوان الجمهوريين" عبر ما يزيد علي نصف قرن والثاني هو ماذا خسر السودان ومعه العرب والمسلمون عامة بتغييب فكر محمود محمد طه واهماله بل وتزويره وتزييفه هنا. يكتب الفكي البشير كلمات من الخيانة اختصارها أو حتي تغيير مفرداتها وتعبيراتها إذ يقول: "ان البحث في موضوع الأستاذ محمود محمد طه "1909 1985" هو بحث في فشل مشروع الدولة في السودان وأزماتها علي كافة الأصعدة. أزمة العقل الثقافي السائد وجمود حركة التغيير ومحنة المثقفين وعجز القيادات والفشل في ادارة التعدد الثقافي وتزوير التاريخ وانبتات الواقع والفشل في ادارة الحوار الوطني بشأن قضايا الهوية والاتفاق علي الثوابت الوطنية. الأمر الذي أدي إلي الفشل في بناء الأمة وضخامة سجل انتهاكات حقوق الانسان ومن ثم حالة التشظي واللا استقرار واللا اسلام وهو كذلك بحث في أزمات افريقيا".. ولا يقف الأمر عند هذا الحد فالخسائر تتراكم "ان البحث في موضوع الاستاذ محمود هو ايضا بحث في أزمة الفكر الاسلامي حيث الرفض للتجديد والتطوير والطمأنينة للقديم والاستكانة للماضي بدلا عن الانفتاح علي المستقبل وهو بحث كذلك في أزمة الأخلاق في العالم وأزمة تحقيق السلام علي الأرض".
تزوير التاريخ والمزورون
جانب آخر ثالث أو رابع لأهمية دراسة عبدالله الفكي البشير عن "محمود محمد طه والمثقفون" يعبر عنه بقوله انه لا يتناول نظريات علم التاريخ ومناهجه ومدارسه واتجاهاته ومصادر وطرق كتابته وفلسفته بل يسعي عبر النقد إلي المساهمة في تقديم نموذج تطبيقي لتزوير التاريخ قام به حملة الأقلام وموجهو الرأي العام ومكيفو مناخ الوعي والقائمون علي أمر الخدمة التنويرية من المثقفين خلال تقديمهم لمغالطة الحقائق وتشويه الوقائع وطمس الأحداث بشأن الاستاذ محمود ومشروعه وسيرته. ان التاريخ في المجتمعات التعددية خاصة في السودان لحقه تزوير كثير. هنالك تزوير قد حدث للتاريخ لتحقيق أغراض. لذلك كله سعي الفكي البشير في كتابه هذا الذي يقع في أكثر من 1200 صفحة إلي اثبات ما تم من تزوير لتاريخ الاستاذ محمود وسيرته ومشروعه وأعني بالتزوير. التشويه عبر البتر الذي تم لنصوص الاستاذ محمود التي كتبها أو قالها والتشويه لكتاباته وأقواله والتشويه لسيرته وعدم الصدق وضعف التحري من الذين نقدوه من خلال تقديم الغرض علي الوثيقة.. وبعد أن يشرح بقية جوانب التزوير التي تعرض لها الاستاذ ينتهي الفكي البشير إلي القول "ان اعمال الحس النقدي يخدم تمهيد الطريق نحو ما بعد التاريخ المعلن". "ان التاريخ المعلن في السودان لا يخدم التعايش وتحقيق الوحدة وبناء السلام. فالنقد عبر استنطاق الوثيقة وإعادة القراءة للوقائع والأحداث يمثل أهم خطوات التغيير لغربلة الموروث وتصحيح المسارات".
في فصل يتحدث فيه المؤلف عن قصته مع كتابه هذا يختتمه بقوله: "ان هذا الكتاب ولدني من جديد" فقد عكف عليه حوالي خمس سنوات يبحث ويتقصي وينقب ويقابل معارضي محمود محمد طه ومؤيديه وقد عرض لبعض ذلك في محاضرة أقامتها الجمعية التاريخية في القاهرة وأدارها الدكتور عباده كحيلة رحمه الله واشترك فيها الباحث السوداني الكبير الدكتور حيدر طه وهو صاحب واحد من أهم الكتب عن محمود محمد طه وقدم في تعليقه نظرة عميقة.. وقد فوجئت بالفكي البشير يشير إلي تاريخ ومضمون لقاء صحفي أجراه العبد لله والأستاذ شفيع شلبي الاعلامي المعروف وزميل ثالث مع الاستاذ محمود محمد طه في داره بأم درمان وقد استمر اللقاء ثلاث ساعات وما أن انتهي حتي قدم لكل منا تسجيلا وافيا بدقائق الحوار وخلافاته وفي زحمة الحياة ضاع مني هذا التسجيل.