|
مقال رئيس التحرير |
إشكالية الدين والسياسة في فلسفة ابن رشد
|
|
|
القاهرة 21 يناير 2025 الساعة 10:26 ص
بقلم: د. هويدا صالح
إن طرح مسألة العلمانية وعلاقتها بالدين، وضرورة فصل الدين عن السياسة والعلاقة بين العلمانية والفكر الديني المستنير هو ما ناقشه المفكر اللبناني فرح أنطون في كتاب" فلسفة ابن رشد" الذي صدر عن دار الآفاق ببيروت.
وقد شغلت مسألة الخلق موقفاً متميزاً ضمن اهتمامات الفكر الفلسفي الكلاسيكي في الإسلام، كما قدّم رواده رؤى متباينة حول النصوص المقدسة المتضمنة لمسألة الخلق استناداً إلى المنهج "العقلاني" في تفسير قصة الخلق وتأويلها للخروج بخطاب منسجم جامع للضرورة الشرعية والحكمة العقلية معا. وإذا كان الفارابي وابن سينا قد تحدثا عن نظرية "الفيض" للبحث عن حل لإشكالية الخلق في السياق الإسلامي، فإن ابن رشد قدّم رؤية مغايرة تستقي عناصرها من قضية أزلية المادة التي شغلت أفكار المفكرين، وهذه الأزلية تقتضي الاعتقاد أن المادة الأولى التي صُنع الكون منها كانت موجودة بذاتها منذ الأزل أي بدون ابتداء، وإلاَّ وجب أن يُقال بأن العالم صنع من العدم، وهذا قول لا يقبله العلم. ولذلك كان ابن رشد يفترض وجود هذه المادة افتراضا، إذ ليس في الإمكان إقامة الدليل على وجودها. وقد وقع ابن سينا قبله في هذه المشكلة أي العجز عن إقامة الدليل على وجود المادة قبل خلق الكون، ولكنه تخلص منها بقسمته العالم إلى قسمين: قسم ممكن وقسم واجب. فالقسم الممكن ما كان حدوثه ممكنًا إذا افترض حدوثه، والقسم الواجب ما كان حدوثه واجبًا بنفسه ولا يحول شيء دونه. وقد وضعت مادة الكون في القسم الممكن. ولذلك، لما كان ابن رشد يبني فلسفته على أزلية المادة، ويعلل الخلق بها كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة، وهي قولهم له أنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك، فإن ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مر الآن على فلسفة اليونان والعرب عشرات القرون، ولا يزال الفلاسفة والعلماء يعتمدون على هذا الافتراض، حتى في هذا العصر لتعليل خلق الكون؛ لأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل من قول القائلين بأن الكون مخلوق من العدم.
يستعرض فرح انطون في هذا الكتاب فلسفة ابن رشد من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد، ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوربية الحديثة، حيث استفاد القديس توماس الأكويني من أفكار"البرت الكبير" الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الإكويني أن يتجاوز العقبة الصعبة التي كانت تؤرق الفكر والعقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة. وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة والعلوم التي تطرح الأسئلة وتثير الجدل كفرًا في رأي الفقهاء، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته؛ لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
حاول فرح أنطون الإفادة من فكر ابن رشد كمصدر لفكر إسلامي مستنير، ورأى أن المشروع الرشدي، في الانتصار للعلم والفلسفة يطرح إشكالية مدى الانحياز للعلم، وضرورة الفصل بين الدين والسياسة. حاول فرح انطون أن يستعيد العلم والفلسفة وضعهما الاعتباري بالقياس إلى الدين. إن هذا الكتاب يطرح النقاش حول الفكر العلماني. ويعتبر خطوة مبكرة لطرح هذا النقاش الفكري، الأمر الذي يعكس تاريخيا حال الحراك الفكري المتقدم في تلك المرحلة من تاريخ الثقافة العربية.
وهذه العلمانية لا تكتمل عند أنطون دون مبدأ، لا يقل أهمية عما ذكرناه، وهو الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية. وتبرير ذلك، اختلاف غاية السلطتين لدرجة التناقض، فالدين يبتغي العبادة والفضيلة وفقاً للكتب المنزلة؛ ولما كان كل دين يدّعي الحقيقة لنفسه ويطلب من الناس أن يسلكوا سبيله لبلوغ الخلاص، وكان من الطبيعي أنه إذا حازت السلطات الدينية سلطة سياسية، أن تضطهد الذين يخالفونها وبالأخص المفكرين. أما غاية السياسة، فهي صيانة الحرية البشرية في حدود الدستور. إن المجتمع الصالح يقوم على مساواة مطلقة بين جميع أبناء الأمة، تتعدى الفروق في الأديان. والسلطات الدينية حين تشترع للآخرة، فإن سلطتها تتعارض وغاية الحكومة التي تضع القوانين لهذا العالم الدنيوي. والسلطات الدينية ضعيفة بطبيعتها، لأنها تحت رحمة مشاعر الجمهور، وينعكس هذا الضعف على المجتمع أيضا، طالما تلح على ما يفرق بين الناس. الجمع بين الدين والسياسة، يضعف حتى الدين نفسه، إذ ينزله إلى حلبة السياسة ويعرضه لجميع أخطار الحياة السياسية.
ولاشك أن أفكار أنطون التي قدمها لمجتمع يقوم على الإيمان ويسيطر عليه الاعتقاد بشمولية الدين وأن الإسلام دين ودنيا، عدت في حينه أفكار ثورية بامتياز. وبقي الفكر العلماني في الوطن العربي في عمومه كما يبدو، امتداداً لأفكار أنطون وغيره من رواد العلمانية كشبلي الشميل الذي يقف عند حدود علمانية القرن الثامن العشر الأوروبي، وبقيت محاولات تطوير العلمانية على الصعيد المفهومي وانطلاقا من تطوراتها الغربية اللاحقة وانطلاقا من حاجات الواقع العربي المحدودة. ناهيك عن إخفاق الممارسة العلمانية على يد الأيدولوجيات الشمولية للنخب العربية الحاكمة للدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال، الذي كان له دورا في تشويه الفكر العلماني جماهيريا لصالح الأيديولوجيا الأصولية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
فرح انطون صحفي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي لبناني.هاجر لمصر هربا من الاضطهاد العثماني عام 1897م، فاصدر مجلة"الجامعة" وتولي تحرير"صدى الأهرام" وأنشأ لشقيقته روز انطون حداد مجلة" السيدات" وكتب عدة روايات تمثيلية، وهو من رواد حركة التنوير. تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين أمثال:"روسو"و"فولتير" و"رينان" و"مونتسكيو".
ـ ابن رشد فيلسوف إسلامي وفقيه وطبيب وفيزيائي، ولد في الأندلس وتكون وعيه الفلسفي فيها. تولى منصب القضاء في إشبيليه، ويرى ألا تعارض بين الدين والفلسفة.له عدة مؤلفات منها: كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه"، "مناهج الأدلة"، "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"،"تهافت التهافت" ،" الكليات"، "الحيوان"، "المسائل في الحكمة"، "جوامع كتب أرسطاطليس في الطبيعيات والإلهيات"،"شرح أرجوزة ابن سينا في الطب".
|
هل لديك تعليق؟
الاسم : |
|
البريد الالكتروني : |
|
موضوع التعليق : |
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|