|
كتاب مصر المحروسة |
الأصالة تشعل قلب الجنوب في مهرجان قنا للفنون التراثية
|
|
|
|
|
القاهرة 17 نوفمبر 2025 الساعة 04:59 م

بقلم: محمد خضير
هناك في الجنوب، حيث تتكئ الشمس على كتف الجبل، وحيث يشقّ النيل طريقه كأنه سيرة الحياة الأولى، احتضنت قنا مهرجانها للفنون والحرف التراثية، في دورةٍ بدت كأنها تعاقد جديد بين الأرض وذاكرتها، بين الماضي وما يزال يتدفق منه من نور.
لم يكن المهرجان مجرد احتفاء بالفنون الشعبية، بل كان زادًا للروح، ومحاولة جادة لاستعادة يقينٍ قديم: أن الهوية ليست زخرفة تُعرض، بل حياة تُعاش، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بقدر ما يتصل بجذره الأول.
* ذاكرة تنبض في عيون الناس
كان المواطن القنائي على موعدٍ مع ذاكرته، في مهرجان لم يُشبه عرضًا فولكلوريًا تقليديًا، بل مشروعًا وطنيًا لحراسة الذاكرة.
ففي نغمة المزمار التي تشقّ الهواء، وفي خطوات التحطيب المتوارثة أبًا عن جد، وفي أنامل الحرفيين التي لا تزال تُجيد لغة الطين والنحاس والكليم والخشب… كانت الحكاية تُروى دون خطابة، ويُستعاد صوت القرية ورائحة الطمي ودفء الجدّات.
لقد جاء المهرجان ليعيد وصل ما انقطع بين الأجيال، وليقول إن التراث ليس أطلالًا تُزار، بل نبعٌ يشرب منه الوعي ويسترد به الإنسان معناه.
* سيمفونية الجنوب
تحوّلت ساحات المهرجان إلى سيمفونية تُعزف ببراعة:
خيولٌ تتمايل في الاستعراضات كأنها تنفض الغبار عن ذاكرة الوطن.
مزمارٌ بلدي يدوّي في فضاء قنا كصلاة فنية لا تعرف الصمت.
حلقات التحطيب ترسم معاني الفروسية والشرف في عيون المتفرجين.
لم يكن المشهد فناً فقط، بل فعل مقاومة رمزية في وجه التفكك والسرعة والارتحال عن الجذور.
فالجنوب هنا أعلن أن الثقافة ليست حنينًا للماضي، بل قوة خلاقة لصنع المستقبل.
* دندرة… حين يصعد التراث
كان افتتاح المهرجان في معبد دندرة لحظة تتجاوز الاحتفال، لتصبح لقاءً بين زمنين: هناك حيث نقشت الجداريات الأولى سيرة المصري القديم، وقف الفن المعاصر ليكمل الصفحة نفسها، وكأن الجدران تتنفس من جديد بإنشاد الصعيد وألحان الربابة وإيقاع الطبول.. ولم يكن ذلك احتفالًا عابرًا، بل إعلانًا بأن الجنوب لم يغادر دوره أبدًا في صناعة وجدان مصر.
* التراث قوة للتنمية والوعي
أثبتت فعاليات المهرجان أن التراث ليس مادة نوستالجيا، بل مدرسة تربوية وجمالية: في ورش صناعة الكليم والعرائس والنحت.. وفي عزف الناي والإنشاد الديني والمواويل.. وفي الحوار بين الشبان والشيوخ، بين اليد المجرّبة والخيال الجديد.. وهناك تعلّم الأطفال أن الفن هوية تُصنع باليد والعقل والروح، وأن كل خيط من الكليم هو امتداد لذاكرة وطن.
* الجنوب… منبع النور
عاد الجنوب ليؤكد أنه ليس هامشًا للثقافة، بل مركز إشعاعها الأول؛
وأن الحكاية المصرية —كلما تعثرت— تجد في الصعيد من يرويها من جديد.
فالخيول التي ركضت في الإستاد لم تكن تُقدم عرضًا فنيًا فحسب، بل كانت تركض في ذاكرة الأمة.
والمزمار الذي ارتفع في سماء الليل كان صوت الأرض حين تستعيد لغتها.
أما التحطيب، فكان درسًا في الانتماء والكرامة وقوة الروح المصرية التي لا تنكسر.
* كلمة الختام
واخيرا وليس بآخر.. يُثبت مهرجان قنا للفنون والحرف التراثية أن الحضارة لا تُبنى بطمس الجذور، بل بإنعاشها، وأن الثقافة حين تكون صادقة تصبح جسرًا بين التاريخ والغد، بين الإنسان وظله، بين الوطن ومعناه.. وخرج المهرجان وقد ترك في الوعي المصري أثرًا لا يُمحى، وفي الذاكرة الثقافية علامة تشبه الضوء.
ومن قنا —أرض التاريخ والكرامة— خرجت رسالة واضحة للوطن كله: التراث ليس ماضيًا يعود… بل مستقبلٌ يولد من جديد.. وأن الثقافة ليست ترفًا، بل نبض الحياة ذاته.. فتحية لكل من نسج من خيوط الماضي مستقبلًا يليق بمصر، ولكل يدٍ صانت الجمال، ولكل صوتٍ أعاد للتراث كرامته وبهاءه.
|
هل لديك تعليق؟
|
الاسم : |
|
|
البريد الالكتروني : |
|
|
موضوع التعليق : |
|
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|