|
دراسات نقدية |
"مهمّةُ المترجم" نصٌّ تأسيسي في فلسفة الترجمة
|
|
|
القاهرة 15 يوليو 2025 الساعة 09:15 ص

أكرم مصطفى
حين كتب فالتر بنيامين مقالته الشهيرة "مهمة المترجم" لم يكن يسعى إلى وضع دليل عمليّ للترجمة، ولا إلى تقنين إجراءاتها اللغوية، بل كان يخطّ معالم ما يمكن تسميته بـ"ميتافيزيقا الترجمة". ففي هذه الصفحات القصيرة نسبيًا، يقدّم "فالتير بنيامين" تأمّلًا فلسفيًا بالغ العمق في طبيعة اللغة، ووظيفة الترجمة، وعلاقة النص المُترجَم بالأصل، واضعًا بذلك حجر الأساس لما سيعرف لاحقًا بنظريات "ما بعد البنيوية" في الترجمة.
الترجمة، كما يراها بنيامين، ليست تابعةً للأصل، ولا مجرّد محاولة لنقل معناه، بل هي استمرارٌ لحياته بلغةٍ أخرى، وكأنّ النص يعيش حياة ثانية بعد ترجمته. يرفض بنيامين الفكرة السائدة التي تجعل من "الوفاء للأصل" معيارًا أوحد، ويركّز بدلًا من ذلك على "القرابة" بين اللغات، وعلى ما يسميه "اللغة النقيّة" التي تسعى الترجمة إلى الكشف عنها عبر عبورها من لغة إلى أخرى.
إن "مهمّة المترجم" ليست نقل المعنى، بل كشف العلاقة الروحية بين اللغات، وتفعيل القوة الكامنة في الكلمات لتقول ما يتجاوز الحرفي والمباشر. بهذا المعنى، يكون المترجم فنانًا ومفكرًا في آنٍ معًا، يعمل داخل اللغة، ومن أجل اللغة، لا بوصفها أداة تواصل فقط، بل بوصفها شكلًا من أشكال الوجود.
وقد ظلّ هذا النص، منذ نشره، موضوعًا لنقاشات وتأويلات لا تنتهي، وركيزة أساسية في النقاشات الفلسفية والنقدية حول الترجمة، خاصة لدى مفكرين مثل جاك دريدا، الذي قرأ فيه إمكانات تفكيكية، الذي اعتبره من أكثر النصوص وعيًا بالطبيعة الرمزية للترجمة.
قام بترجمة النص المترجم المغربي أحمد بو حسن، وصدرت الترجمة عن مؤسسة "بيت الزبير" بسلطنة عمان، و "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن. وفي هذه الترجمة العربية، نعيد تقديم "مهمّة المترجم" إلى القارئ بوصفه نصًّا فلسفيًا وثقافيًا مركزيًا، لا يزال حتى اليوم يطرح أسئلة جوهرية حول الأصل، والتأويل، والمعنى، واللغة، والاختلاف.
أعلى النموذج
أسفل النموذج
وفي تمهيده للكتاب، يوضّح المترجم أنه قدّم "في هذا العمل ترجمة ثلاثية متعدّدة الوجوه لنصّ فلسفي شديد الصعوبة، على أن إعادة ترجمة هذا النص وتدقيقه وتحقيقه ومراجعته تتيح فهمًا مضمونيّا أقرب إلى المعنى الأصلي".
ويضيف: "وقد اعتمدتُ أساساً في تدقيق ترجمة هذا النص إلى اللغة العربية على الترجمتين الإنجليزية والفرنسية من الأصل الألماني، وكذلك الترجمة العربية من الأصل الألماني، وبخاصة ترجمة حسين الموزاني، التي نُشرت في مجلة «فكر وفن» الألمانية (العدد 79، 2004، ص20-25)، وكذلك ترجمة رضوان ضاوي- ترجمة خاصة غير منشورة-. كما رجعت إلى ترجمة أحمد إحسان، من الإنجليزية إلى العربية، المنشورة في كتاب «فالتر بنيامين، مقالات مختارة» (تقديم راينير روشلبتز، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص39-47)".
وفي جزء دقيق من الكتاب يقول "فالتير بنيامين": "تكمن مهمة المترجم في العثور على التأثير المقصود الخاص في اللغة الهدف التي يظهر فيها صدى اللغة الأصل. وهذا هو مظهر الترجمة الذي يميزها أساساً عن عمل الشاعر، لأن قصد هذا الأخير لا يتجه بتاتاً نحو اللغة في حد ذاتها، في جملته، ولكنه يتجه مباشرة نحو المظاهر السياقية اللسانية الخاصة، لا غير. فالترجمة لا تجد نفسها داخل الغابة الجبلية للغة، كما يفعل الشعر، بل خارجها، أي في مواجهتها دون أن تدخل إليها، في المكان الوحيد الذي ترجع فيه صدى اللغة كل مرة، أثر صدى العمل الأدبي في اللغة الغريبة. فقصد الترجمة لا يعالج قصد العمل الأدبي أو يختلف عنه؛ أي اللغة ككل، انطلاقاً من عمل فردي في لغة أجنبية، ولكنها مختلفة كذلك نوعياً في مجموعها. فقصد الشاعر عفوي، أولي، وجلي، بينما قصد المترجم استنباطي، نهائي وغني بالمعاني. ذلك أن الحافز الأكبر إلى إدماج لغات عديدة في لغة واحدة حقة هو الذي يحرك عملها. هذه اللغة هي تلك التي لا تتواصل فيها أبداً الجمل المستقلة، والأعمال الأدبية والأحكام النقدية، لأنها تبقى مستقلة عن الترجمة؛ ولكن هذه اللغات نفسها تكون داخل الترجمة متكاملة ومتصالحة في معانيها، بل وتتقارب كلها. فإذا كان هناك شيء مثل لغة الحقيقة، يمثل ذخيرة للأسرار النهائية، غير متوترة وصامتة، يسعى إليها كل فكر، فإن لغة الحقيقة هاته هي اللغة الحقة. وهذه اللغة بالذات، التي يكمن كمالها الوحيد في وصفها وقدرة تنبئها التي يطمح إليها الفيلسوف، تكون مختفية بدقة متناهية في الترجمة. فليس هناك ربة للفلسفة ولا للترجمة. غير أن هذه الترجمات ليست خالية من الذوق الفني مثلما يدعي بعض الفنانين العاطفيين؛ إذ إن هذه الترجمات تتسم بالإبداع الفلسفي الذي يسعى إلى لغة تتجلى فيها الترجمة".
تجد الإشارة على أن "فالتر بنيامين" وُلد سنة 1892، وتوفي سنة 1940. وهو فيلسوف، ومؤرخ للفن، وناقد أدبي، وناقد للفن، ومترجم ألماني. كان مرتبطاً بمدرسة فرانكفورت الفلسفية. ترجم بالخصوص بلزاك، وبودلير، وبروست. انتشرت أفكاره بشكل واسع ابتداء من خمسينيات القرن العشرين، وتمت دراستها وتحليلها. له مقالات وأبحاث جُمعت في ثلاثة مجلدات ونشرتها دار جاليمار الفرنسية سنة 2000.
|
هل لديك تعليق؟
الاسم : |
|
البريد الالكتروني : |
|
موضوع التعليق : |
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|