|
خواطر و اراء |
كوكب تاني: ذكريات نوفمبرية
|
|
|
|
|
القاهرة 11 نوفمبر 2025 الساعة 10:10 ص

بقلم: أمل زيادة
سكان كوكبنا الأعزاء..
ها نحن نلتقي من جديد، وسط أجواء شهر نوفمبر المثيرة للشجن، أعتبره شهر الحنين الذي يكتبنا قبل أن نكتبه.
ليس هناك شهر يشبهه من شهور العام، ربما لأنه آخر ما نطل منه على نافذة عام على وشك الانتهاء. يذكرني دومًا بالساعات الأخيرة قبل الشروق، حيث تنتهي حياة وتبدأ حياة، هكذا هو يشهد قرب انتهاء أيام وأحلام وإنجازات ستصبح ذكرى بمجرد مضي أيامه ال 30 سريعا.
يراه البعض وكأنه ظلٌّ طويلٌ للخريف، لا يريد أن يرحل، ولا يجرؤ أن يكون شتاءً تمامًا، ففيه تصحو المدن على ضبابٍ خفيف يكسو النوافذ، وتنكمش الأرواح كما تنكمش الأوراق الصفراء تحت المطر، هو زمن لا يُقاس بالتقويم، بل بالنبض، زمن يتباطأ فيه العالم ليتيح للذاكرة أن تتنفس.
ارتبط نوفمبر منذ القدم بالوداع، ففيه ينطفئ آخر ضوء من الخريف، وتتهيأ الطبيعة للنوم الطويل، لكن الغريب أن هذا الوداع لا يُشعرنا بالحزن الكامل، بل بشيء من السكينة الممزوجة بالأسى الجميل.
ذلك الإحساس الذي لا تعرف أهو فرح أم حزن، حب أم ذكرى، ربما لهذا كتب بول فيرلين في إحدى قصائده "الدموع تسقط في قلبي كما يسقط المطر على المدينة، كأن المطر في نوفمبر لا ينزل على الأرض فقط، بل على القلب أيضًا".
أما لوركا فقد وصفه في رسائله بـ "الشهر الذي تتحدث فيه الرياح أكثر من الناس وفيه يشعر الشاعر أن كل شيء يحكي بصوته — الأشجار، المراكب، الغيوم البعيدة".
أعتبر شهر نوفمبر، شهر الحنين، كأنّ الذاكرة تختار فيه أن تُعيد تشغيل أفلامها القديمة!
نتذكر لقاءً في مقهى قديم، ضحكةً لم تعد موجودة، صوتًا كان يملأ المساء ثم اختفى
في نوفمبر، كل شيء يبدو كما لو أنه يحدث للمرة الثانية، حتى رائحة القهوة تذكّرك بمكان آخر.
حتى صوت خطواتنا على الرصيف يبدو كصدى لخطواتٍ أقدم، تقول فرجينيا وولف في إحدى يومياتها: "لا كظلٍّ ثقيل، بل كرفيقٍ صامت يذكّرني بمن كنت". في نوفمبر، أشعر أن الماضي يسير بجانبي خطوة بخطوة، ربما لهذا يُقال إن الذين يكتبون في نوفمبر لا يكتبون عن الواقع، بل عن الذاكرة التي ترفض الموت،أحببت أن يكون هذا المقال خاص بشهر نوفمبر، جمعت لكم بعض الأقلام التي أحبّته، كتب نجيب محفوظ في يومياته عن "هدوء القاهرة في ليالي نوفمبر"، "حين كانت الشوارع تتنفس المطر، وتبدو كأنها استعادت براءتها".
ودوّن مصطفى محمود في كتابه رحلتي من الشك إلى الإيمان
"في نوفمبر، كنت أعود إلى نفسي، كأن المطر يغسل القلب من غبار الصيف"
كل كاتب تقريبًا مرّ به، وترك فيه أثرًا، بصفة شخصية كتبت أكبر وأعمق رواية بدايتها كانت من شهر نوفمبر الأحزان.
أما أنسي الحاج فقد كتب في الرسالة غير المرسلة" كل ما يبلله نوفمبر يعود إلى الحياة".
بل حتى الشعراء الغربيين وجدوا فيه مساحة تأمل لا تتكرر..!!
كتبت سيلفيا بلاث في نوفمبر 1962 "السماء رمادية كرماد حلمٍ قديم".
وت. س. إليوت قال عنه إنه "شهر الأرواح الهائمة التي لم تجد مكانًا في الشتاء بعد"
كل هؤلاء كتبوا عنه، لا لأنهم أحبوه فقط،، بل لأنهم وجدوا فيه لحظة الصمت بين فصول الحياة.
تلك اللحظة التي تسمح لك أن ترى نفسك بوضوح قبل أن يغطّيك الثلج..
في نوفمبر، تصبح الكتابة فعل نجاة، وكأن القلم وحده هو ما يمنعك من الذوبان في البرد.
أجزم أن العالم اتفق على أن هذا الشهر هو الأنسب للغوص في الخيال، خاصة حين يهدأ الخارج، فيعلو صوت الداخل، ربما لأن الكتابة تحتاج طقسًا رماديًا؛ السماء المفتوحة للغيوم لا تشتّت، بل توحّد الفكر.
والبرد يجعل الأصابع تبحث عن الدفء في الكلمات، ولهذا نكتب في نوفمبر أكثر مما نحكي،
نخاطب الورق حين يصعب علينا مخاطبة البشر.
سكان كوكبنا الأعزاء..
ألا تتفقون معي أن جمال نوفمبر لا يُرى بالعين، بل يُحَسّ بالقلب، لأنه المرادف الوحيد لجمال الغياب، لا الحضور، جمال الورق الذي سقط، لا الشجرة التي بقيت
ولأن الجمال في نوفمبر يأتي محمّلًا بالوحدة، لذا يحن إليه كل عاشق، و ينتظره كل كاتب .
سكان كوكبنا الأعزاء..
كم من نوفمبر مرّ بنا وترك بصمته فينا، شاركونا ذكرى عزيزة عليكم ولها علاقة بهذا الشهر.
لذا كونوا بالقرب..
|
هل لديك تعليق؟
|
الاسم : |
|
|
البريد الالكتروني : |
|
|
موضوع التعليق : |
|
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|