|
القاهرة 04 نوفمبر 2025 الساعة 11:16 ص

بقلم: د. هويدا صالح
في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي بسرعة الضوء، يجد إيلون ماسك، الرجل الذي يحلم باستعمار المريخ ويبني سيارات كهربائية تطير، وقتاً للتأمل في أسرار الماضي البعيد. ماسك، مؤسس شركات مثل سبيس إكس وتيسلا، ليس مجرد رائد أعمال؛ إنه فيلسوف عصري يستمد إلهامه من الحضارات القديمة، خاصة الحضارة المصرية التي بنت أعجوبات لا تزال تتحدى الزمن. علاقته بهذه الحضارة ليست سطحية، بل هي مزيج من الإعجاب الفني، والفضول العلمي، والتأمل في كيفية تحقيق الإنجازات البشرية. ومن بين كل جواهر مصر القديمة، يبرز معبد دندرة كنجمة في سماء اهتماماته، حيث أثار تغريدة واحدة منه موجة عالمية من النقاشات حول "التكنولوجيا المفقودة" للمصريين الأوائل. في هذا المقال المطول، سنستعرض هذه العلاقة المعقدة، ما يعرفه ماسك عن المعبد، ما "اكتشفه" من خلالها، ما يريده منها، وقيمتها التاريخية، وأخيراً الدلالات الفلسفية والعلمية لهذا الارتباط.
-
جذور الإعجاب: كيف اكتشف ماسك سحر مصر القديمة؟
بدأت علاقة إيلون ماسك بالحضارة المصرية كإعجاب عفوي، لكنه سرعان ما تحول إلى نقاشات عميقة على منصة إكس (تويتر سابقاً)، التي يملكها اليوم. في يوليو 2020، شارك ماسك فيديو قصيراً يظهر جماليات معبد دندرة، معلقاً عليه بقوله: "كانت لمصر القديمة جمالية مذهلة لا تزال قائمة حتى اليوم". هذه التغريدة، التي حصدت آلاف الإعجابات، لم تكن مجرد تعليق عابر؛ إنها تعكس فلسفة ماسك في البحث عن "الأسلوب الدائم" في الإبداع البشري، الذي يرى فيه مصدر إلهام لمشاريعه المستقبلية. وفي يناير 2023، عاد ماسك ليشارك فيديو آخر عن المعبد نفسه، قائلاً باختصار: "كانت مصر القديمة"، مصحوباً بفيديو يبرز النقوش الدقيقة والعمارة السماوية، وأضاف في تعليق آخر: "مصر على نار"، في إشارة إلى الحماس الذي أشعله هذا التراث في نفسه. هذه التغريدات لم تمر دون أثر؛ فقد أثارت ردوداً من علماء الآثار المصريين مثل زاهي حواس، الذي وصفها بأنها "ترويج هائل لمصر"، ودعت وزارة السياحة المصرية ماسك رسمياً لزيارة البلاد، معتبرة إعجابه بوابة لجذب السياحة العالمية.
ليس هذا الإعجاب بالمصريين القدماء حديث العهد؛ فقد غرد ماسك سابقاً عن الأهرامات، مقارناً إياها بـ"ألغاز مذهلة" تشبه التحديات التي يواجهها في استكشاف الفضاء. يرى ماسك في الحضارة المصرية نموذجاً لكيفية بناء حضارة تتجاوز الزمن، حيث كان المصريون يجمعون بين العلم، والفن، والروحانية ليخلقوا أعمالاً تتحدث عن الخلود. هذا الارتباط ليس مصادفة؛ فماسك، الذي يقرأ كتباً عن التاريخ والأساطير، يجد في مصر القديمة إجابات لأسئلته عن مصير البشرية: كيف نبني حضارة لا تنتهي؟ وكيف نستمد الطاقة من الماضي لبناء المستقبل؟
-
معبد دندرة: جوهرة الحضارة المصرية في عيون ماسك
معبد دندرة، المخصص للإلهة هاثور (إلهة الحب والموسيقى والفرح)، ليس مجرد بناء حجري؛ إنه موسوعة حية للحضارة المصرية. يقع في محافظة قنا جنوب مصر، ويعود تاريخه إلى العصر ما قبل الديناستيات، مع أدلة أثرية من المقابر القديمة القريبة من جداره. كانت دندرة عاصمة المنطقة السادسة في صعيد مصر، حيث كانت تُعبد الثالوث المقدس: هاثور، وهور بيهدتي، وهور إيهي. وفقاً للأساطير المصرية، شهد المعبد معركة أسطورية بين هور (زوج هاثور) وسيت، الإله الشرير الذي قتل أوزوريس.
بدأ بناء المعبد الحالي في العصر البطلمي (حوالي 116 ق.م. تحت بطليموس التاسع سوتر الثاني)، واستمر حتى العصر الروماني مع الإمبراطور تراجان (117 م.). يتكون المجمع من المعبد الرئيسي، جدران محيطة، معبد الولادة الإلهية (بدأه نيكتانيبو الأول في الديناستية الثلاثين)، ومعبد ثانٍ لبطليموس الثامن، بالإضافة إلى كنيسة ومستشفى قديم، معبد إيزيس، بحيرة مقدسة، ومقياس النيل. يُعتبر المعبد قمة الإبداع المعماري، وكتاباً شاملاً للفكر الديني المصري في تلك الحقبة، وأحد أفضل المعابد المحفوظة في مصر.
ما يعرفه ماسك عن هذا المعبد، بناءً على تغريداته، يركز على الجمالية والرمزية. في فيديوهاته المشاركة، يبرز النقوش الجدارية التي تغطي مئات المشاهد والنصوص عن المعتقدات الدينية: تيجان هاثور، كوكبات سماوية على السقوف، أسطورة اتحاد هاثور مع قرص الشمس، وكابينة الإلهة نوت (التي تُمثل السماء بشكل فريد هنا). هناك أيضاً ممرات تحت الأرض للحفاظ على أدوات هاثور الطقسية، سلالم إلى السطح تؤدي إلى مسارات مظلمة، مشاهد على السطح لاتحاد هاثور مع الشمس، وغرف تصور موت أوزوريس وقيامته. أشهرها الـ"زودياك الدائري" الذي نقل إلى متحف اللوفر، ومشاهد لقيصريون (ابن كليوباترا) يعبد الإلهة. ماسك، الذي يهتم بالفلك، يرى في هذه النقوش خرائط سماوية تذكر بطموحات سبيس إكس، حيث يقول إن "الأسلوب المصري القديم يدوم إلى اليوم"، مشيراً إلى كيفية دمج العلم بالفن.
أما "ما اكتشفه" ماسك هناك، فهو ليس اكتشافاً حرفياً – إذ لم يزر المعبد شخصياً حتى الآن – بل هو إعادة اكتشاف رمزي أثار جدلاً عالمياً. تغريداته سلطت الضوء على "مصابيح دندرة" (Dendera Light Bulbs)، النقوش التي تشبه مصابيح كهربائية معلقة بأسلاك، مع أفعى داخلها ترمز إلى الطاقة. بعض النظريات الشائعة، التي انتشرت بعد تغريداته، تقترح أنها دليل على تكنولوجيا كهربائية متقدمة لدى المصريين قبل آلاف السنين، ربما مستمدة من معرفة مفقودة. ماسك لم يؤكد هذه النظريات صراحة، لكنه أشعل النقاش بتعليقه الذي وصف المعبد بأنه "نار"، مما دفع الآلاف إلى البحث عن "التكنولوجيا المصرية المفقودة". في الواقع، يفسر علماء الآثار هذه النقوش كرموز أسطورية للخلق والحياة الجديدة، لا كآلات حقيقية، لكن إعجاب ماسك جعلها رمزاً للإمكانيات البشرية غير المحدودة.
-
ماذا يريد ماسك من معبد دندرة؟ طموحات بين الماضي والمستقبل
سؤال "ماذا يريد إيلون ماسك من معبد دندرة؟" يفتح باباً للتكهنات، لكنه يعكس جوهر شخصيته: البحث عن الإلهام. ماسك لا يسعى لامتلاك المعبد أو سرقته – كما حدث مع زودياك دندرة في القرن التاسع عشر – بل يراه مصدراً للطاقة الإبداعية. في مقابلاته، يتحدث ماسك عن الحاجة إلى "فهم الحضارات المنقرضة" لتجنب مصيرها، ودندرة تمثل له ذلك: حضارة بنت معابد تتحدى الزلازل والفيضانات، مستخدمة هندسة فلكية دقيقة. ربما يريد ماسك استخدام رموزها في تصاميم تيسلا أو سبيس إكس، كما فعل مع التصاميم المستوحاة من الأساطير في صواريخه. أو ربما، كما يقول بعض المحللين، يرى في "مصابيح دندرة" نموذجاً للطاقة النظيفة، مستوحى من أسطورة الطاقة الإلهية لإضاءة العالم الحديث.
دعوة مصر له للزيارة قد يتيح فرصة لتحويل هذا الإعجاب إلى شراكة، ربما في مشاريع سياحية أو أثرية باستخدام التكنولوجيا، مثل الواقع الافتراضي لإعادة بناء المعابد. ماسك، الذي يحب "الألغاز"، قد يريد حل لغز النقوش ليجد إجابات عن كيفية بناء حضارة متعددة الكواكب، مستلهماً من المصريين الذين رأوا النجوم كآلهة.
-
قيمة معبد دندرة في الحضارة المصرية: أكثر من حجارة، بل روح أبدية
قيمة معبد دندرة لا تقتصر على جماله المعماري؛ إنه مرآة لروح الحضارة المصرية. كمعبد هاثور، يجسد التوازن بين الفرح والحزن، الحياة والموت، من خلال مشاهد الولادة الإلهية والقيامة. السقوف المغطاة بالكوكبات تجعله مرصدا فلكياً، يسجل دورات النجوم للتنبؤ بالفيضانات، مما يظهر عبقرية المصريين في العلوم. النقوش، التي تغطي كل جدرانه، هي كتاب مفتوح عن الديانة: اتحاد الشمس مع الإلهة، قصة أوزوريس، ودور الملوك كوسطاء بين الأرض والسماء. حتى اليوم، يُدرس المعبد كدليل على التأثير الهلنستي على مصر، حيث دمج البطالمة اليونانيون مع التقاليد المصرية.
في سياق الحضارة، يمثل دندرة "الكتاب الشامل" للدين المصري المتأخر، محفوظاً بشكل استثنائي بفضل موقعه النائي. قيمته الاقتصادية اليوم هائلة؛ إنه مصدر سياحي يجذب ملايين الزوار سنوياً، ويُعتبر تراثاً عالمياً يذكرنا بأن الحضارات تبنى على الإيمان بالخلود.
-
الدلالات: جسر بين العصور، ودروس للبشرية
الارتباط بين ماسك ومعبد دندرة يحمل دلالات عميقة. أولاً، فلسفياً: يذكرنا بأن التقدم لا يأتي من العزلة، بل من الاستلهام بالماضي. ماسك، الذي يحارب لجعل البشرية متعددة الكواكب، يرى في المصريين نموذجاً للحضارة التي نجت من الكوارث، مستخدمة الفن لتسجيل معرفتها. ثانياً، علمياً: نقاش "مصابيح دندرة" يبرز كيف يمكن للأساطير أن تلهم الابتكار؛ ربما يؤدي إعجاب ماسك إلى دراسات جديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي لفك رموز النقوش، مكشفاً أسراراً فلكية تساعد في استكشاف الفضاء.
ثالثاً، ثقافياً: في عصر التواصل الاجتماعي، تحولت تغريدة ماسك إلى "ترويج هائل" لمصر، كما قال حواس، مما يعيد إحياء التراث لجيل الشباب الذي يرى فيه إلهاماً، لا مجرد تاريخاً ميتاً. أخيراً، الدلالة الأكبر هي في التواضع: حتى رجل يبني الصواريخ ينحني أمام حجارة قديمة، مدركاً أن البشرية واحدة، من دندرة إلى المريخ.
في النهاية، علاقة إيلون ماسك بمعبد دندرة ليست مجرد قصة تغريدة؛ إنها حوار بين عصرين، يذكرنا بأن الأسرار القديمة قد تكون مفتاح المستقبل. ربما يزور ماسك المعبد يوماً، ليضيف فصلًا جديدًا إلى تاريخه، مستلهماً من هاثور ليضيء دروب النجوم.
|