|
القاهرة 07 اكتوبر 2025 الساعة 03:31 م

بقلم: د. هويدا صالح
في مطلع القرن العشرين، تشكّلت الحركة النسوية بصور متعددة تبعًا للسياقات التاريخية والثقافية المختلفة. ففي الغرب، برزت أصوات فكرية وأدبية تساءلت البنى الذكورية السائدة، بينما ظهرت في الشرق العربي رائدات سعين لإدماج المرأة في المجال العام عبر التعليم والعمل. وسط هذه التحولات، تتجلى تجربتان متباعدتان جغرافيًا لكنهما متقاربتان في الرؤية: إيفا حبيب المصري (1911–1988)، الرائدة في مجال التعليم والعمل الاجتماعي، وفرجينيا وولف (1882–1941)، الكاتبة الإنجليزية التي بلورت خطابًا نقديًا حول علاقة المرأة بالإبداع.
إن المقارنة بينهما تكشف عن تداخل النسوية العملية مع النسوية الفكرية، وكيف يمكن لصوت نسوي في القاهرة أن يتقاطع مع خطاب فلسفي في لندن رغم اختلاف السياقات.
إيفا حبيب المصري: التعليم والعمل كأفق للتحرر
نشأت إيفا حبيب المصري في مصر ما قبل الاستقلال، حيث كانت الحركة الوطنية تتبلور وتتحرك معها بدايات حركة تحرير المرأة بقيادة هدى شعراوي. ترعرعت في بيت مثقف ومنفتح؛ فوالدها حبيب باشا المصري، سكرتير مجلس الشيوخ، آمن بحق بناته في التعليم. بفضل هذه البيئة، أصبحت من أوائل الطالبات اللواتي التحقن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1928، لتتخرج عام 1931 فاتحةً الطريق أمام أجيال من الفتيات المصريات لولوج التعليم العالي.
يعكس حضورها المتواصل في المجال العام فلسفة واضحة: التعليم والعمل الاجتماعي ليسا مجرد مسارين فرديين، بل آليتان لتمكين المرأة ومنحها الاستقلال والقدرة على التأثير في المجتمع.
إسهاماتها الرائدة
كانت إيفا شخصية محورية في تطوير العمل الاجتماعي والخدمة الاجتماعية في مصر، وأسست نظامًا مؤسسيًا لرعاية الفتيات لا يزال تأثيره قائمًا حتى اليوم، رغم أن اسمها شبه منسي تمامًا:
مؤسسة "بيت الفتاة": في أربعينيات القرن العشرين، أسست "بيت الفتاة" في القاهرة، وهو لم يكن مجرد ملجأ، بل مؤسسة متكاملة لتأهيل وتعليم الفتيات اليتيمات أو من ليس لهن عائل، وتدريبهن على مهن تضمن لهن حياة كريمة ومستقلة.
رائدة الخدمة الاجتماعية الحديثة: أدخلت مفاهيم حديثة في الرعاية الاجتماعية، مثل التأهيل النفسي والدمج المجتمعي، بدلًا من مجرد الإيواء. كانت رؤيتها متقدمة جدًا على عصرها.
العمل بعيدًا عن الأضواء: كرّست إيفا حياتها بالكامل للعمل الاجتماعي المباشر، بعيدًا عن الصراعات السياسية أو الحركات النسوية الكبرى، مما جعل إرثها عمليًا أكثر منه إعلاميًا، وبالتالي لم تنل حظها من الشهرة.
في المساحة البرزخية بين الظل والنور
تمثّل إيفا حبيب المصري نموذجًا لنساء كثيرات ساهمن بعمق في صياغة ملامح حركة النهضة النسائية في مصر، لكن حضورهن ظل معلقًا بين الاعتراف والنسيان. لم تحظَ بالشهرة الواسعة التي نالتها رائدات مثل هدى شعراوي أو درية شفيق، رغم أن إسهاماتها كانت جوهرية في دفع المرأة المصرية إلى فضاءات جديدة.
يمكن وصفها بأنها واحدة من "الرائدات البرزخيات"، اللواتي وقفن في منطقة وسطى بين الظل والنور؛ فدورها لم يُمحَ كليًا من الذاكرة، لكنه أيضًا لم يُحتفَ به بما يكفي. إن استعادة سيرتها اليوم تكشف عن حاجة ملحّة لإعادة قراءة تاريخ الحركة النسوية المصرية، بحيث لا يقتصر على الأسماء الأكثر بروزًا، بل يشمل أيضًا من عملن في صمت ومهّدن الطريق للأجيال التالية عبر فعل يومي مستمر لا يقل أثرًا عن الزعامة العلنية.
فرجينيا وولف: الغرفة كرمز للاستقلال
في بريطانيا، وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، طرحت فرجينيا وولف سؤالًا وجوديًا حول علاقة المرأة بالكتابة والإبداع. في كتابها الشهير "غرفة تخص المرء وحده" (1929)، صاغت أطروحتها التي صارت حجر زاوية في الفكر النسوي: لكي تكتب المرأة رواية، فهي بحاجة إلى مال وغرفة تخصها وحدها.
لم تكن الغرفة مجرد مكان مادي، بل رمزًا للاستقلال المادي والفكري والنفسي. فالمرأة، بحسب وولف، ظلت مقيدة بتبعية اقتصادية للرجل، ومكبلة بالأدوار الاجتماعية التي حجّمت فرصها في التعلم والإبداع. عبر شخصية "جوديث شكسبير"، أخت شكسبير المتخيلة، جسدت وولف المأساة التي تنتظر أي امرأة موهوبة في عصر أبوي، حيث تُحرم من التعليم وتُجبر على الزواج، فتُدفن موهبتها إلى الأبد.
من كاتبة إلى أيقونة رمزية
إذا كانت إيفا حبيب المصري قد وقفت في مساحة برزخية بين الظل والنور، فإن فرجينيا وولف اتخذت مسارًا معاكسًا؛ إذ تحولت من كاتبة وناقدة نسوية إلى أيقونة رمزية في الفكر والأدب الغربي. لقد جرى استدعاء اسمها في كل نقاش حول قضايا المرأة والإبداع حتى صارت تمثل أكثر من شخصها التاريخي.
غير أن هذا التحول إلى رمز، رغم قوته، يحمل جانبًا إشكاليًا: إذ قد يختزل شخصيتها المتعددة الأبعاد في مجرد شعار نسوي، في حين أن تجربتها كانت أيضًا معاناة وجودية مع المرض النفسي، والبحث المضني عن معنى الكتابة والحياة. إن استعادة وولف بوصفها كاتبة إنسانية قبل أن تكون رمزًا نسويًا يعيد التوازن إلى صورتها، ويفتح مجالًا لرؤية أكثر ثراءً لتجربتها.
تقاطعات فلسفية بين التجربتين
على الرغم من اختلاف السياقين، فإن التقاطع بين إيفا حبيب المصري وفرجينيا وولف يظل جليًا. كلتاهما طرحتا سؤال التحرر، لكن عبر وسائل مختلفة:
إيفا اختارت الطريق العملي: التعليم والعمل الاجتماعي، أي تحويل النظرية إلى واقع ملموس.
وولف ركزت على البعد الرمزي والفكري: المال والغرفة كشرطين ضروريين للإبداع.
في العمق، تمثل رؤية إيفا حبيب المصري ترجمة واقعية لما دعت إليه وولف. فالتعليم الذي ناضلت من أجله إيفا يفضي إلى العمل، والعمل يمنح المرأة الاستقلال المادي، أي "الغرفة الرمزية" التي تحدثت عنها وولف. وبينما جعلت وولف من الغرفة استعارة لفعل الكتابة والإبداع، صنعت إيفا من التعليم والعمل فضاءً واقعيًا تقتحمه المرأة العربية لتصبح فاعلة ومؤثرة.
بين النسيان والرمزية المفرطة
تكشف المقارنة بين إيفا حبيب المصري وفرجينيا وولف عن مفارقة لافتة: الأولى رائدة منسيّة، أسهمت في فتح أبواب التعليم والعمل للمرأة المصرية، لكنها بقيت في برزخ بين الظل والنور، لم تنل من الاعتراف التاريخي ما يتناسب مع حجم دورها. والثانية أيقونة رمزية، تجاوز حضورها الأدبي حدود إنجلترا ليغدو عالميًا، حتى اختُزل اسمها في شعار نسوي يُرفع في كل سياق.
بينما عانت إيفا من غياب الأضواء رغم فعلها العملي المؤثر، واجهت وولف خطر الذوبان في رمزية مفرطة قد تُغيّب تعقيد تجربتها الإنسانية. ومن خلال هاتين الصورتين، ندرك أن تاريخ النساء ليس خطًا واحدًا، بل هو فضاء متداخل بين النسيان والمبالغة في التمثيل، وأن إعادة قراءته تتطلب استعادة الرائدات اللواتي غيّبتهن الظلال، دون أن نتوقف عند الأيقونات وحدهن.
|