|
القاهرة 30 سبتمبر 2025 الساعة 10:51 ص

د. إبراهيم المليكي ـ الجزائر
ليست المدن مجرد عمران من حجر وأسفلت، بل كائنات حية تحمل ذاكرتها الخاصة وتخطّ سيرتها على وجوه ناسها، في أصوات الأسواق، وفي صمت المقابر، وفي المعمار الذي يشهد على تعاقب الأزمنة. إنّ لكل مدينة "سيرة" تتجاوز الجغرافيا إلى التاريخ، وتتخطّى الوقائع إلى الحكايات التي نسجتها الألسنة والكتب والأساطير. وحين نتأمل المدن الكبرى أو الصغيرة، نكتشف أنها تكتب حياتها عبر لحظات النهوض والانكسار، عبر أمكنة ظلّت شاهدة على الفرح والمأساة، وعبر ملامح تحوّلت إلى علامات فارقة في الذاكرة الجماعية. من هنا يصبح الحديث عن سيرة المدن ضرباً من كتابة تاريخ موازٍ، لا يتوقف عند السرد الرسمي، بل يغوص في أعماق الناس، في ما يروونه وما يخفونه، وفي ما تحمله الأزقة والمقاهي والموانئ من قصص لا تنتهي.
وربما هذا ما حاول الكاتب الأردني مفلح العدوان أن يفعله في كتابه "عمان الذاكرة"، حيث يوثق سيرة مدينة عمان من قلب حجارتها ومقاهيها وأحلام ناسها، ليقدّم نصاً يمتزج فيه الأدب بالتاريخ، والخيال بالواقع، كاشفاً ملامح الشخصية الحيّة للعاصمة الأردنية، كما تتجلى في ذاكرة من عاشوها، أو مرّوا بها، أو سكنتهم قبل أن يسكنوها.
يضمّ الكتاب عدداً من الفصول التي تتوزع وفق نمط غير تقليدي، أقرب إلى التجوال الحر في المدينة، كأنّ القارئ يسير مع المؤلف بين الجبال السبعة، يتنقل من جبل القلعة إلى وسط البلد، من المقاهي القديمة إلى الأسواق الشعبية، ومن المدرج الروماني إلى الأزقة التي تختزن الحكايات والصمت والذكريات.
لا يكتب العدوان "عمان" كمدينة عادية، بل يقدمها ككائن حيّ، له لسان وذاكرة وأصابع، يتكلّم في الليل، ويحرس أحلام ناسه، ويهمس في المقاهي، ويشاغب في الأزقة، ويغنّي في المدرّج الروماني. فكلّ شارع له نبرة، وكل مقهى له طابع، وكل فانوس يحمل حكاية.
يفتتح المؤلف كتابه، الذي زيّنت غلافه لوحة للفنان عصام طنطاوي، بـ "رقصة التكوين"، متسائلاً: من هم عشّاق عمان؟ ليجيب عبر استعارة رمزية عن "شيوخ سبعة" شكّلوا عباءتها الحضارية، ثم تمضي الصفحات في استدعاء الأصوات والملامح التي صنعت هذه المدينة، ومنها شخصية "تايكي" — إلهة الخصوبة والحب عند الكنعانيين — التي يجعلها العدوان تسكن جبل القلعة، وتبوح من هناك بأسرار عمّان الغائرة في التاريخ.
ينقسم الكتاب إلى فصول تحمل عناوين تُحاكي الطرقات والنقوش والذاكرة، ففي فصل "طَرقات على أبواب العاصمة"، نقرأ "طَرقاته" الست، التي تشبه طرق الباب في لحظة اشتياق، وفي كل طرقة يستدعي الكاتب ذاكرة منسية، أو مكاناً خافت الحضور في وعي الناس.
وفي فصل "أسرار القلعة.. وأسماء عمان"، يُعيد المؤلف قراءة التسمية والهوية، من "عمون" إلى "عمان"، ومن زمن الكنعانيين إلى اليوم، أما في "مسرح الحضارة"، فيتوقّف عند المدرّج الروماني، كمكان حيّ شهد المسرح والحب، الفرح والمأساة، الغناء والاحتجاج، لا كموقع أثري فقط، حيث تنعكس حياة المدينة بكل تجلياتها على سلالمه الصاعدة والهابطة.
واحدة من أبرز خصائص الكتاب هو تركيزه على الإنسان كعنصر لا ينفصل عن المكان، بل هو مكوّنه الحيوي، ففي فصل "نقوش الكائنات"، يقدم العدوان صوراً رمزية للشخصيات التي تشكل ذاكرة المدينة؛ "نقش الشاعر، نقش الكهل، نقش الطفل، نقش الحبيبة"، وكأن كل وجه من وجوه أهل عمان يترك أثراً على حجارة المدينة وعلى قلبها.
وفي "شتات المقاهي"، تُستعاد المقاهي بوصفها ذاكرة اجتماعية وثقافية، حيث لا تُحتسب فقط كمكان لتناول القهوة، بل كمنصات حوار وتشكّل ثقافي ووجداني، ومن ذلك الحديث عن مقهى "العاصمة"، الذي لا يراه المؤلف كمبنى فقط، بل ككيان حضاري انهار بهدوء، فانهارت معه ذكريات، وأحاديث، وأصدقاء، ومراحل كاملة من زمن المدينة.
في فصل "ليل عمان.. ناطور أفراحهم"، يتعامل العدوان مع الليل ككائن شعري، يحرس الأحلام، ويرافق المتعبين، ويمنح المدينة صوتها الهامس، فالليل، كما يصوره الكاتب، ليس عتمة، بل لغة ثانية تتكلّم بها عمّان، حيث تثرثر الفوانيس، وتكتب الأرصفة الرسائل، وتصبح السماء دفتراً كبيراً للأمنيات المؤجلة.
في الفصل الأخير، اختتم العدوان رحلته برسالة وجدانية إلى الحبيبة عمان، يقول فيها: "عمان ذاكرة العشق، وتميمة الأمن، فقم بنا، وعُد، ففي العمر متّسع للحب، وفي عمان عشٌّ ينتظرنا.. قُم بنا يا الحبيب فقد حان اللقاء!".
|