|
القاهرة 30 سبتمبر 2025 الساعة 10:47 ص

بقلم: كريم عبد السلام
السادة العارفون كلّ شيء، ونقاد السوشيال ميديا يتكلمون بثقة متناهية عن تراجع الشعر، وعن موت الشعر، وعن غياب الشعر، وعن عداء الشعر للإعلام وعداء الإعلام للشعر، وعن اختفاء الشعر في ظروف غامضة، ويجزمون أن آخر مواطن صالح شاهده، كان يقود شاحنة تريلا على الطريق الدائري، بينما رأته قارئةٌ صالحةٌ يهيم على وجهه في شوارع حلوان والمعصرة وصولا إلى القنطرة شرق، إلى آخر هذه الإطلاقات التى تجعلنا ندوس على زر الصوت في ريموت التلفزيون لنضحك على تعبيرات الممثلين الصامتين بعد أن تزعنا حناجرهم .. اسكتوا من فضلكم .. اسكتوا يا أولاد الزمن.. اسكتوا قليلا وفكروا في لحظة حب واحدة، أو دمعة صادقة، أو ضحكة من القلب أو أفضل قصائد تعرفونها وعودوا لقراءتها، حتى تتصلوا بموسيقى الكون السرية، وساعتها ستعرفون الفارق بين الشعر وبين الاستغلال السياسى والاجتماعي لهذا الفن الوجودي، ستعرفون لماذا ينأى الشعر بنفسه عن حُمّى الاستهلاك التي اجتاحت الحياة ونحن نائمون.
السادة العارفون بكل شيء (وهم طيف واسع من الشعراء السابقين، والصحفيين المتحركين، وكُتّاب البوستات اليومية، والمفكرين بالقطعة، وتجار الكليشيهات، ورواد الفضاء المتقاعدين، والأورانج أوتان، ومُقلّدى الفنانين، وكُتّاب الروايات الشفاهية غير المكتملة، والنقاشين المتحدين لبيع قصائد البالة، وموظفى إدارات التشهيلات بمحطات القطارات، ومطربى المهرجانات، ومدراء بيوت وعشش وأكواخ الشعر الرسمي المختوم) كلما نزلت الشبورة على الطرق السريعة فى الصباح الباكر، وغطى الضبابُ الشجرَ والحجرَ، ملأوا الدنيا صراخاً وضجيجاً : العالم اختفى .. نهاية العالم .. العالمُ لمْ يعد موجوداً .. نحن الذين عشنا لحظات ازدهار البشرية نرى مشهد النهاية الحزين.
عفوا أيها السادة العارفون بكل شيء، لا يليق، لا يصح أن تقولوا ما تقولون، بدلا من هذا الصراخ المصطنع والادعاءات الميلودرامية، قولوا: نحن لا نرى.. لا نعرفُ.. لا ندركُ.. نحن مشغولون جدا بالوجبات السريعة، ولا نستطيع قراءة الزمن والديوان والقصيدة والبيت والكلمة .. ليس عيباً أن تقولوا لا نعرف، ليس عيباً أن تتوقفوا عن تكرار الكليشيهات الغبية والعبارات الفارغة، لأنه بعد ساعة أو ساعتين سيعود العالم المنتهى إلى الظهور وسينقشع الضبابُ، لكنكم لن تعلنوا عودة العالم، أو ازدهار الشعر، لأنكم ستكونون فاقدين للرؤية أيضا، وستواصلون ترديد عبارات فارغة أخرى، بدل أن تستمتعوا بالجلوس فى المقهى أو مغازلة امرأة جميلة!
متى وتحت أي ظرف تكونت تلك الهوة السحيقة بين الشعراء ونتاجهم الشعرى وبين الرأي العام الثقافي إذا جازت التسمية، فالرأي العام الثقافي الذى كان يصنعه مقالات زكى نجيب محمود وفؤاد زكريا ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ويوسف إدريس ومحمد مندور وغيرهم من كبار المبدعين، آل فى نهاية الزمان إلى مجموعة من الصحفيين غير المثقفين، ممن يحترفون الكتابة بقوة الأمر الواقع وسطوة الوظيفة، الأمر الذى سمح بظهور وانتشار كليشيهات الجهل والجهلة حول الفنون الإبداعية ومن هذه الكليشيهات تراجع الشعر واختفاؤه، ولو سألت من يردد مثل هذا الكليشيه عن آخر ديوان قرأه ورأيه فيه لن يعطيك جوابا شافيا.
أيضا ما فاقم ظاهرة الكليشيهات السماعية المبتذلة حول فنون الإبداع، تحول الحياة الثقافية من مشهد حي متكامل إلى جزر منعزلة، كل حزب بما لديهم فرحون، فالشعراء يكتبون لأنفسهم من دون متابعة حقيقية أو تفاعل من النقاد، وكتاب القصة يعانون من الإنكار أمام تيار المصفقين للرواية، بينما يتصدر المشهد حملة كليشيه الرواية باعتبارها سيرة ذاتية اعترافية، ومن ثم الرواية حق لكل مواطن بصرف النظر عن التمكن الفني والجمالي.
هل يصح أن نلقي بالتبعة على حركة النقد وتراجعها، أم أننا سنسقط في فخ الكليشيه المعتاد؟ والأصح أن ننتظر مناخا ثقافيا أكثر حياة وتفاعلا واشتباكا، مع عودة الحياة والنزاهة إلى المنابر الثقافية و الجامعات ومراكز الحراك الثقافي في بيوت وقصور الثقافة بالمحافظات.
|