|
القاهرة 23 سبتمبر 2025 الساعة 09:10 ص

د. هويدا صالح
تاريخ الحركة النسوية المصرية ليس مجرد سرد لجهود فردية، بل هو خريطة متشابكة من الجمعيات والصحف والأحزاب التي شكّلت وعي النساء المصريات في بدايات القرن العشرين. ورغم أن أسماء مثل هدى شعراوي ودُرية شفيق ونبوية موسى قد نلن حضورًا بارزًا في الذاكرة الجمعية، إلا أن هناك رائدات أخريات ظللن في الظل، منهن فاطمة نعمت راشد، التي جمعت بين العمل الأهلي والصحافة والسياسة، وأسّست لجذور قوية للحركة النسوية المصرية.
من المهم إعادة الاعتبار لفاطمة نعمت راشد من خلال ثلاثة محاور: العمل الاجتماعي (جمعية ترقية المرأة)، العمل الصحفي (مجلة "ترقية المرأة" و"المصرية")، والعمل السياسي (الحزب النسائي المصري)، مع إبراز دورها المؤسِّس في نقابة الصحفيين.
أولًا: السياق التاريخي والفكري
وُلدت فاطمة نعمت راشد في مصر أواخر القرن التاسع عشر، زمن الاحتلال البريطاني. وقد شكّل هذا السياق ميدانًا لتشكل وعي نسوي جديد، مستلهم من كتابات قاسم أمين ("تحرير المرأة"، 1899) ومن الحراك الوطني في ثورة 1919، حيث خرجت النساء لأول مرة إلى الشارع مطالبات بالحرية.
ثانيًا: العمل الاجتماعي – جمعية ترقية المرأة (1908)
كان تأسيس "جمعية ترقية المرأة" عام 1908 علامة فارقة في مسيرة راشد، إذ مثّلت فضاءً للتثقيف النسائي والوعي بالحقوق. جمعت الجمعية سيدات من طبقات اجتماعية مختلفة، ونظمت محاضرات عن التعليم والصحة والأحوال الشخصية، مع طرح رؤية إصلاحية لا تنفصل عن البنية الثقافية السائدة.
بهذا النهج، لم تصطدم راشد مع المجتمع المحافظ، لكنها زرعت بذورًا لخطاب جديد يرى المرأة شريكة في النهوض الوطني والاجتماعي.
ثالثًا: العمل الصحفي – من "ترقية المرأة" إلى "المصرية"
أدركت فاطمة نعمت راشد مبكرًا أن الصحافة أداة أساسية لبناء الوعي.
1. مجلة ترقية المرأة (1908):
أطلقتها بالتوازي مع جمعيتها، فكانت منصة لمناقشة قضايا النساء وإبراز سير الرائدات، وهو ما أسّس لبدايات الصحافة النسوية في مصر.
2. مجلة المصرية (1937):
رشّحتها هدى شعراوي لرئاسة تحرير المجلة الناطقة باسم الاتحاد النسائي المصري، والتي كانت تصدر منذ 1925 بالفرنسية بعنوان (L’Egyptienne). تولّت راشد إدارتها لتصبح أول مصرية في موقع قيادي بمجلة نسوية كبرى.
ورغم العراقيل البيروقراطية، حصلت على التصريح الرسمي في ديسمبر 1936، بعد صدور "الفيش والتشبيه" من وزارة الداخلية. تحت إدارتها، صارت *المصرية* منبرًا حداثيًا يناقش التعليم، الحجاب، والمواطنة الكاملة للنساء.
رابعًا: دورها في نقابة الصحفيين (1941)
لم يقتصر نشاط فاطمة نعمت راشد على الصحافة النسوية، بل امتد إلى تأسيس الكيان النقابي للصحفيين. ففي عام 1941، كانت واحدة من "أربع سيدات" شاركن ضمن المائة المؤسسين لنقابة الصحفيين، إلى جانب نبوية موسى، فاطمة اليوسف، ومنيرة عبد الحكيم. كما شاركت في أول جمعية عمومية للنقابة في العام نفسه.
هذا الوجود النسائي المبكر في مؤسسة مهنية بارزة يؤكد أن النساء لم يقتصر دورهن على قضايا "المرأة" الضيقة، بل خضن معركة أوسع من أجل الاعتراف بهن كفاعلات في المجال الصحفي والإعلامي الوطني.
خامسًا: العمل السياسي – الحزب النسائي المصري (1942)
في عام 1942، أطلقت فاطمة نعمت راشد "الحزب النسائي المصري"، الذي حمل برنامجًا تقدميًا يتضمن:
ـ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في التعليم والعمل والحقوق السياسية.
ـ منح المرأة حق الانتخاب والترشح.
ـ مساواة العاملات بالعمال في الأجر والحقوق، وإقرار إجازة أمومة مدفوعة الأجر.
ـ إصلاح قوانين الأحوال الشخصية، عبر تقييد تعدد الزوجات والطلاق إلا للضرورة.
أثار الحزب جدلاً مع الاتحاد النسائي المصري، الذي اعتبره عامل انقسام. لكن راشد أكدت أن الاتحاد أصبح جامدًا، وأن المرحلة تحتاج إلى حراك سياسي مباشر. وتصف إنجي أفلاطون في كتابها "نحن النساء المصريات" الحزب بأنه أعاد الحيوية للحركة النسوية رغم قصر عمره.
إن سيرة فاطمة نعمت راشد تكشف عن نموذج متكامل للريادة النسوية المصرية، يتنقل بين العمل الأهلي، الصحافة، السياسة، والعمل النقابي. فقد أسست جمعية للنهوض بالمرأة، وأدارت مجلات شكلت مدرسة في الصحافة النسوية ("ترقية المرأة" "المصرية")، وأسست حزبًا سياسيًا يطالب بحقوق المرأة كاملة، وكانت ضمن المؤسسين الأوائل لنقابة الصحفيين عام 1941.
إن تجاهل اسمها في السرديات التاريخية الرسمية يطرح سؤالًا عن آليات صناعة "الذاكرة النسوية"، وعن سبب تهميش أصوات نساء حملن عبء التأسيس. إعادة الاعتبار لها ليست مجرد واجب تاريخي، بل ضرورة لفهم كيف تشكّلت الحركة النسوية المصرية على أكتاف جيل متنوع من الرائدات، لا على أيقونات بعينها فقط.
|