|
القاهرة 16 سبتمبر 2025 الساعة 10:40 ص

د.ماهر أحمد سليمان
تتناول رواية "استقالة عالمة ذرة" لإحسان عبد القدوس قضية الصراع الذي تعيشه الأم العاملة بين أداء واجبها الوظيفي الذي تخدم من خلاله المجتمع، وبين مسؤوليتها تجاه أبنائها. ورغم نجاح العديد من السيدات في تخطي هذا الصراع بصعوبة، لا تزال هذه المشكلة تؤرق أخريات، بل وتجبرهن على التخلي عن وظيفتهن كحال بطلة الرواية د. عنايات والتي تعود بصحبة زوجها د. نبيل من الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولهما على درجة الدكتوراه في العلوم بامتياز باختلاف تخصص كل منهما.
ومنذ عودتهما إلى أراضي الوطن، وهما متمسكان بشغفهما، وحبهما للبحث العلمي، ورغبتهما في خدمة المجتمع، رغم ملاقاتهما للكثير من المتاعب والمشكلات التي طفت على سطح المجتمع مع بداية عصر الانفتاح، كصعوبة المواصلات، وانقطاع المياه، وعدم تقدير قيمة الوقت، وضعف المرتبات مقارنة بأجور أصحاب الحرف البسيطة، واستغلال حارس العقار وعاملات المنزل لهما، ومعاملة بعض الجيران الفظة، مع ذلك فالأمر يبدو على ما يرام، ولا يُنقص ذلك من عزيمتهما شيئا. فبرغم حالة الفوضى داخل المجتمع التي تعكسها المواقف اليومية إلا أن د.عنايات وزوجها د.نبيل يعيشان حالة من الهدوء، والحب. فأساس زواجهما قائم على الصداقة، والتفاهم، والشراكة داخل البيت، وخارجه. فنراهما يمثلان نموذج الزوجين السعيدين على النحو الغربي البعيد تمام البعد عن نموذج سي السيد وأمينة المعتاد مشاهدته في المجتمع المصري.
وهكذا يستمر الحال بهما حتي يحدث الصراع المتوقع بحمل الدكتورة عنايات في طفلها الأول، ورغبتها هي وزوجها في البحث عن عاملة منزل ومربية في الوقت ذاته تقوم على شئون البيت، وترعى طفلهما عقب ولادته مباشرة حتى يتسنى لعنايات ونبيل الاهتمام بأبحاثهما العلمية، والوصول من خلالها إلى نتائج سليمة يمكنها أن تخدم الدولة، وترفع من شأنها على المستويات العلمية، والطبية، والاقتصادية.
وتواجه عنايات ونبيل عناء البحث عن عاملة منزل ومربية، وصعوبة في تنظيم مهام يومهما خصوصا مع مرور أشهر الحمل الأولى. وبالرغم من عثورهما على عاملة، إلا أنها لم تمكث طويلا، وتأتي من بعدها، ثم من بعدها، ولا يستقيم الحال ولا يستقر لعنايات وزوجها.
ويقرر الزوجان أخذ الطفل إلى احدى الحضانات المناسبة لعمره، والقريبة في الوقت ذاته من بيتهما، رغم أنها تبعد نحو 3 محطات، ويذهب الزوجان لمعاينة وضع الحضانة والاطمئنان على ابنهما هناك قبل تركه فيها، ورغم الفوضى العارمة التي تملأ الحضانة يضطران إلى تركه بعد إقناع المشرفة لهما، وإخبارهما بأن الحضانة واحدة من أفضل الحضانات على الإطلاق التي تقدم الرعاية الكاملة لمن هم في مثل عمر ابنها.
ولكن لم يكتب لعنايات ونبيل التمتع بحالة مستمرة من الهدوء والاستقرار حيث يتعرض الرضيع في أول يوم له بالحضانة لوعكة صحية نتيجة إهماله، وعدم إسعافه، وعندما تذهب أمه د. عنايات لإحضاره تكتشف المسألة، وتستنكر الوضع إلا أنها لا تلقى حتى اعتذارا من مشرفة الحضانة، فتقرر عدم إلحاق ابنها بأي حضانة مرة أخرى.
وبالوصول إلى هذه المرحلة ترفع د.عنايات الراية البيضاء وتعلن استسلامها أمام المجتمع، وتقرر أن تتخلى عن وظيفتها كباحثة، وعالمة في أبحاث الذرة بالمعهد القومي للبحوث، وأن تتفرغ لعملها كأم، فعلى حد قولها لا يستطيع المجتمع أن يطالبها بالعمل إلا إذا طمأنها على حياة ابنها وراحته، وأنها تستطيع أن تستقيل من واجبها كعالمة ذرة، ولكن لا تستطيع أن تستقيل من واجبها كأم. ورغم محاولة د. نبيل في إثنائها عن موقفها، وطلبه منها أن تفكر في قرارها قبل العزم على تنفيذه، ترفض، وتخبره أنه قرارها الأخير.
تؤكد الرواية أن المشكلة ليست في طموحات المرأة أو قدراتها، بل في نقص الخدمات والمرافق الداعمة للأمهات العاملات،
كما تؤكد الرواية أن للمرأة الحق في العمل والتفوق في أي مجال تختاره، وأن دورها كأم لا ينبغي أن يُعيقها عن تحقيق طموحاتها.
كذلك تدعو الرواية المجتمع إلى توفير البنية التحتية اللازمة لدعم الأمهات العاملات، لتمكينهن من متابعة أعمالهن دون التخلي عن واجباتهن الأسرية. ويرى الكثيرون أن الرواية تعكس واقع الكثير من النساء العاملات في المجتمع، مما يجعلها قصة واقعية ومؤثرة، والبطولة هنا عالمة ذرة وليست عاملة بسيطة أو مجرد موظفة تقوم بعمل روتيني، فإذا كان الوضع كذلك للعالمة التي تضحي بعملها ومكانتها وطموحها عندما يتصارع مع أمومتها، فما بالنا بالعاملة البسيطة.
والطريف في هذه الرواية أنها قصة واقعية، تخص الكاتب نفسه كما في بعض حواراته، وأن بطلة الرواية ما هي إلا السيدة "روز اليوسف" والدة الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وقد كانت ملء السمع والبصر، وملكة الصحافة، ولكنها فضلت أن تترك نجاحها ونجوميتها وكل شيء حققته خلف ظهرها لتظل بجانب ولدها الصغير عندما تعرض لحالة تسمم وكانت حياته في خطر، ولم تدخر الأم وسعًا في رعاية ابنها حتى شفائه التام، لتعود مرة أخرى إلى نشاطها واستئناف عملها.
|