|
القاهرة 16 سبتمبر 2025 الساعة 10:36 ص

بقلم: د. هويدا صالح
في سجل الحركة النسوية المصرية، برزت أسماء لامعة حملن مشعل النهضة ودافعن عن حق المرأة في التعليم والمشاركة المجتمعية، متحديات قيود العصر. ورغم أن التاريخ حفظ لنا أسماء مثل هدى شعراوي ونبوية موسى وسيزا النبراوي، فإن هناك رائدات أخريات ظللن في الظل، لم تنل إنجازاتهن حظاً من التقدير أو الذكر.
ومن بين هؤلاء المناضلات المجهولات، تطل علينا السيدة إحسان أحمد القوصي، التي ولدت عام 1900 في مدينة القوصية بمحافظة أسيوط، في كنف أسرة مستنيرة آمنت بقيمة العلم والتعليم إيماناً راسخاً. في زمنٍ كانت فيه مشاركة المرأة في الشأن العام مقيدةً اجتماعياً، وقفت عائلتها سداً منيعاً أمام هذه القيود، ولم يكن هذا غريبا على أسرة عرفت قيمة المعرفة، فحين أراد والدها أن ينقل مكتبته الثمينة من أسيوط إلى القاهرة على متن مراكب النيل، في رحلة رمزية تحمل دلالة العمق الثقافي والإصرار على متابعة المسيرة التنويرية.
هكذا تشكلت شخصية إحسان القوصي، التي جمعت بين الفكر والسياسة والاجتماع، وساهمت بصمتٍ في تشكيل وعي نسوي رصين، لتكون بحق إحدى رائدات الحركة النسوية التي يستحق اسمهن أن يُكتب بماء الذهب.
في سن مبكرة، انخرطت إحسان في الأنشطة الوطنية. خلال ثورة 1919، شاركت في المظاهرات النسائية التي قادتها هدى شعراوي، حيث كانت إحسان واحدة من العضوات البارزات في لجنة الوفد المركزية للسيدات، إلى جانب فكرية حسنى وإستر ويصا وجميلة عطية. كانت هذه المشاركة خطوة جريئة، إذ خرجت النساء إلى الشوارع مرددات شعارات ضد الاحتلال، مما يعكس وعيها السياسي المبكر ودورها في ربط القضية الوطنية بحقوق المرأة.
حصلت إحسان القوصي على الدكتوراه في المملكة المتحدة بفضل إيمانها بقيمة التعليم والمعرفة وبفضل دعم أسرتها وتشجيعها على رحلة تعليمها من مصر لإنجلترا.
ترجمت إحسان كتاب "الديمقراطية والتربية" لجون ديوي إلى العربية عام 1928، وهو عمل يعكس اهتمامها بالفلسفة التربوية الحديثة. كما ألفت كتباً مثل "الرسالة"، و"تطور الأسرة المصرية"، و"مؤتمر التربية الدولي السابع"، مما ساهم في نشر أفكار تقدمية حول التعليم والأسرة في المجتمع المصري. كما قدمت القوصي العديد من المؤلفات التي تعتبر مرجعًا مهمًّا في دراسة الحركة النسوية المصرية، ومن أهم كتبها كتاب "المرأة والمجتمع" الذي حللت فيه بعمق قضايا المرأة في سياق المجتمع العربي.
عادت إحسان إلى مصر بعد تخرجها لتبدأ مسيرة مهنية مزدحمة في مجال التعليم والعمل الاجتماعي. شغلت منصب مديرة مدرسة ثانوية لمدة عام، ثم مديرة مدرسة ابتدائية في الإسكندرية لثلاث سنوات، وألقت محاضرات في المواد الاجتماعية والتاريخ والأخلاقيات في المدارس الثانوية لثماني سنوات. عام 1953، أصبحت عميدة معهد البنات العالي للعمل الاجتماعي، حيث ساهمت في تدريب جيل جديد من النساء على الخدمة الاجتماعية.
كما كانت إحسان رائدة في الحركة النسوية، حيث ساهمت في تأسيس الاتحاد النسوي المصري عام 1923، حيث ركزت جهودها على حقوق المعلمات المتزوجات، إعادة تأهيل العاهرات، والحقوق السياسية للمرأة. كما أسست منظمة الطالبات النساء وشغلت منصب أمينة الاتحاد النسائي، وكانت عضواً في مجالس إدارة جمعية رعاية الطفل في المعادي ودار الأطفال المشاغبين.
ألقت محاضرات عديدة حول حقوق المرأة، بما في ذلك محاضرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث دعت إلى تحسين مكانة المرأة وفتح الأبواب أمام الجيل الجديد. وللتأثير الكبير الذي تركته محاضرتها الأولى في الجامعة الأمريكية بالقاهرة دعتها الجامعة لإلقاء محاضرات متتابعة لمناقشة وضعيات النساء في ظل ثقافة لم تكن تؤمن بحقوقهن السياسية والاجتماعية.
تركت إحسان القوصي إرثاً دائماً في التعليم والنسوية المصرية. كانت رمزاً للنساء اللواتي تحدين التقاليد، وساهمت في تطوير الوعي النسوي من خلال أعمالها الأكاديمية والناشطة. على الرغم من أن اسمها لم يحظَ بالشهرة الواسعة مثل بعض معاصراتها، إلا أن دورها في الثورة والمنظمات النسوية جعلها أحد أعمدة الحركة. توفيت إحسان في وقت لاحق، لكن إسهاماتها لا تزال تلهم النساء المصريات في سعيهن للمساواة والتعليم.
شغلت القوصي مناصب مهمة، مثل عضوية مجلس الشعب المصري، واستغلت موقعها للدفاع عن قضايا المرأة وسن قوانين تدعم حقوقها. كما أنها شاركت بفاعلية في المؤتمرات الدولية والمحلية، وكانت صوتًا قويًا يعبر عن طموحات المرأة المصرية.
إحسان القوصي ليست مجرد شخصية تاريخية، بل نموذج للنضال النسوي الذي جمع بين التعليم والسياسة. في عصر يشهد تقدماً في حقوق المرأة، يظل إرثها تذكيراً بأهمية الجهود الجماعية لتحقيق التغيير. كباحث، أرى في سيرتها دليلاً على أن الرائدات مثلها كنّ قوة دافعة للنهضة المصرية، ويجب الحفاظ على ذكراهن لتعزيز المساواة في المستقبل.
|