|
القاهرة 16 سبتمبر 2025 الساعة 10:30 ص

بقلم: كريم عبد السلام
الشاعر ليس فردًا فى فراغ، ولكنه نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضى والحاضر، تورط دائم واشتباك متواصل ومعاناة سيزيفية لا تنتهى، وهو أيضًا نظر ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها، وما يطرأ عليها من تغيرات، فهو يرى ما يحرك الإنسان تجاه مصيره، وهو فى كل الأحيان منحاز إلى الإنسان فى طموحه وأحلامه، وفى معاناته وأشواقه ولحظات عجزه أو تحققه، عند عثوره على الحب أو اصطدامه بالموت . الشعر هنا، في قلب اللحظات القصوى للإنسان، عندما يشعر بامتلاك العالم أو بفقدان العالم، وهى اللحظات التى يكون فيها على استعداد للاستشهاد أو القتل، للتضحية أو الثورة
إن أخطر أشكال الوعى الزائف على الشعر والشعراء، سيادة النمط العام عن الشاعر وحركته ووعيه وسيادة النمط الجمالي عن القصيدة، ولعل المحك الأساسى للشعراء الأصلاء يكون فى تحدى النمط والخروج عليه واجتراح تصورهم الفردى عن القصيدة وجمالياتها، وبذلك يمهدون بدايات الطريق الذى يسيرون فيه نحو مشروع جمالى يخصهم ونحو فردية خلاقة هى الباقية واللافتة وسط ركام الأنمط والكتابات المشتركة المتشابهة.
الشاعر هو حامل جينوم الحالم حارس المعنى والمقاوم الرافض لسحق الإنسانية بطرح السؤال: لماذا؟ فى توقيته ومكانه.
كما أن من مثالب سيادة التفكير من خلال الأنماط والتنميط، نشوء الميليشيات الأدبية التى ترفض الاختلاف وتضيق بالرحابة فى التوجهات الجمالية ولا تستطيع أن تقرأ المختلفين جماليًا، وبالتالى نشوء المعارك الزائفة المؤسسة على وعى زائف وتصورات نمطية ضد منطق الإبداع من حيث هو اختيار جمالى محكوم بالنزعة الفردية والتوجهات الخاصة لكل شاعر.
إن الشاعر فى كل قصيدة يخوض معارك على جبهات متعددة، أولها معركة الإمساك بالعالم داخل القصيدة، حيث يسعى الشاعر إلى العودة من القصيدة المتخيلة للقصيدة المكتوبة بالمتن كاملا كما دار فى خياله بصوره وروائحه ومادته الملموسة، ولكن من خلال عنصر أو وسيط واحد هو الكلمات، وفى هذه المعركة تحدث عملية المطاردة للصور والمشاهد والأصوات ولحظات الصمت والتعبيرات المتشابكة، وتمنح القصيدة ظلالها للشاعر بقصد المراوغة، كما تفعل الحية إذ تخلع إهابها على قارعة الطريق وتمضى فينخدع الأغرار بالجلد الفارغ بينما تراقب الحية من مخبئها وتنتظرالشاعر الذى لا يلتفت إلى الإهاب ويسعى وراءها ليظفر بها حية تنبض.
كيف يستطيع الشاعرإذن أن يضع أغانى السيرينات كما سمعها فى روحه على الورق؟ كيف يمكن الإمساك بهمهمات الحب حتى آخر نأمة؟ كيف يمكن تثبيت نظرة انطفاء الحياة فى عينى العجوز؟ كيف يمكن التوفيق بين استغراق الشاعر فى غابة القصيدة بصورها وكائناتها وأصواتها ولوحاتها المتكاملة، وبين إعادة تمثلها فى كلمات على صفحة بيضاء؟ كيف يمكن الإمساك بعالم بوليفونى غني بتشابكه وأبعاده ونقله كاملا على الورقة البيضاء فى عالم ذى بُعدٍ واحد؟ أى خسارة فادحة يتحملها الشاعر بين عيش القصيدة وتسجيلها؟ وإلى أى مدى يقبل بخسارته ويتعايش معها، معذبًا بما يدركه فى روحه وحواسه ويعرف أنه موجود بكليته وتمامه فى وسيط آخر غير الورقة وشاشة الكمبيوتر؟
هذه المعركة الأولى للشاعر، لكنه وقبل أن يفرغ منها، عليه أن يحسم معركة أخرى حول موضع قدميه، وعلى أي أرض يق . الشاعر بحدسه قادر على النفاذ إلى عمق المشهد والكون والإحاطة بالعالم من خلال كل نظرة منه إلى تجلٍّ واحد من تجليات الكون، سواء أكانت صخرة أم زهرة أم نجمة أم مشهدًا سينمائيا أم انفعالا بموقف ما، لكنها الكليشيهات تلك التى تشوش وعى الشاعر وتجعله يعطل حدسه لصالح ما يشاع من كليشيهات رائجة بحسب المرحلة، عن علاقته بمجتمع أو بالسياسة أو بالأحداث الراهنة من حوله، بالأغراض الشعرية التي تتحول وتتبدل بحسب المناخ العام والذوق الأدبى والموضات القرائية..
وللحديث بقية..
|