|
القاهرة 18 سبتمبر 2025 الساعة 08:01 م

بقلم: أحمد محمد صلاح
لمسنا الفلسفة اليهودية بهدوء شديد، ولم أشأ أن استفيض في هذا الشأن، وإنما أجعل جل المجهود للفلسفات المسيحية التي انبثقت بعد ذلك من خليط من الفلسفة اليونانية القديمة وكذلك لمسات من الفلسفة اليهودية.
ولنعود قليلا إلى الوراء في التاريخ، فعندما حاصرت أسبرطة أثينا وانزلت بها الهزيمة في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، تحولت السيادة السياسية عن أثينا، وبالتالي الفلسفة والفن، مما أدى إلى تراجع العقل الأثيني، وأعدم سقراط، وماتت معه على حد قول "ويل ديورانت" روح أثينا، ثم هزم فيليب المقدوني الأثينيين في عام 388 قبل الميلاد، وجاء الاسكندر المقدوني وحاول نشر الهيلينية في البلاد التي فتحها، ولكنه فشل لأن تلك البلاد كانت تحمل بذور وجينات حضارات قوية عميقة الجذور، وتسربت إلى اليونان وأثينا فلسفات جديدة مثل الزينونية، ونهب الرومان هيلينا في عام 146 قبل الميلاد ووجدوا فيها مدارس فلفسية متنافسة وعادوا بفلسفة زينون إلى روما، ولكن روما القوية بعد سنوات وكما يقول ديورانت: "الشعوب كالأفراد تنمو ببطء وتفني حتما وبعض الشعوب تتكاثر واخري تتناقص وتزول".
تعرضت روما لتدهور الزراعة مما أدى إلى الفقر والفوضي، وتضاءلت المدن إلى أطراف نائية صغيرة، وتعطلت الطرق وقلت التجارة، واستسلمت في النهاية الحضارة والثقاافة الأثينية إلى الطقوس الدينية الشرقية، وتحولت الامبراطورية بلا شعور إلى البابوية.
ويقول برتراند راسل: "كان الذين يبشِّرون بالمسيحية أول الأمر هم اليهود أنفسهم؛ يبشرون بها اليهودَ على أنَّها العقيدة اليهودية دخَلها الإصلاح، وقد أراد القديس جيمس -كما أراد القديس بطرس بدرجة أقل- أن يقف أمرُ المسيحية عند هذا الحد، وقد كان من الجائز أن يسود رأيهما، لولا القديس بولس الذي صمَّم على قبول غير اليهود دون مطالبتهم بالختان أو الخضوع للتشريع الموسوي.
ومهما يكن من أمر، فقد بقي الرأي القائل بأن اليهود هم «الشعب المختار» غُصة في حلوق اليونان تجرح كبرياءهم. وقد رفض الغنوسطيون هذا الرأي رفضًا من أساسه، ليست الغنوسطية أو الغنوصية مذهبًا واحدًا، ولكنها مذاهب شتى تجمع بين المسيحية واليهودية والوثنية والأفكار الفلسفية الهيلينية، ولكن جميع هذه المذاهب تنظر للمادة على أنها شر ونجاسة وخطية، والإله العظيم منزَّه عن الاتصال بالمادة، لذلك فهو لم يخلق العالم إنما صدر منه آلهة أخرى، وأكثر هذه الآلهة بعدًا عنه هو الإله الذي اتصل بالمادة وخلق العالم، واعتقدوا أن الأرواح كانت موجودة في عالم سماوي منير ولكنها سقطت فجأة إلى الأرض وأصبحت سجينة الجسد المادي، وتحتاج إلى من يخلصها، والخلاص يأتي عن طريق المعرفة، فغنوسيس gnosis أي معرفة، والغنوصيون هم أصحاب المعرفة، وبالمعرفة يعرف الإنسان أصوله، ويعرف من هو، ويعرف كيف يخلص.
وعندما دخل بعض الغنوصيين إلى المسيحية وقف أمامهم التجسد حجر عثرة، إذ كيف يتحد اللاهوت المنزَّه عن المادة بالجسد المادي، ولذلك ادّعوا بأن جسد المسيح ليس هو جسدًا ماديًا إنما نزل من السماء، وبذلك أنكروا التجسد، وفصلوا السيد المسيح عن بشريته، وأبعدوا الله عن الاتصال بالعالم.
ويستطرد برتراند راسل: "وذهب هؤلاء -أو على الأقل ذهب نفر منهم- إلى أن العالم المحسوس قد خلقه إله أدنى يُسمى «أيالدابوث»، وهو ابن ثائر لصوفيا (وهي الحكمة السماوية)، وقد قالوا إنَّ ذلك الإله هو «يهوا» الذي ورد في «العهد القديم»، على حين كانت الحية أبعد ما تكون عن الخبث، إذ راحت تنذر حواء وتحذرها من خداعه. وقد لبث الإله الأسمى أمدًا طويلًا تاركًا الحبل على الغارب ل «أيالداموث». وأخيرًا أرسل «الإله الأسمى» «ابنه» ليحل مؤقتًا في جسم «يسوع» الإنسان، كي يحرر العالم من تعاليم موسى الخاطئة.
وإن من يعتنقون هذا الرأي أو ما يشبهه لَيدمجونه -عادة- في فلسفة تسودها الصبغة الأفلاطونية. وقد مر بنا أن أفلوطين قد وجد شيئًا من العسر في دحض هذا الرأي.
وإن الغنوسطية أو الغنوصية لَتقع في مكان وسط بين الوثنية الفلسفية وبين المسيحية؛ لأنَّها بَينما هي تكرِّم المسيح من جهة، تراها تسيء الظن باليهود من جهة أخرى. ويَصدُق هذا نفسه -فيما بعد- على المذهب «الماني» الذي كان وسيلة القديس أوغسطين للوصول إلى العقيدة الكاثوليكية، وكان المذهب المانوي يجمع بين عناصر مسيحية وعناصر زرادشتية، ويذهب إلى أن الشرَّ شيء إيجابي متجسد في المادة، بينما يتجسد مبدأ الخير في الروح، وحارب أكل اللحم والاتصال الجنسي بأنواعه، حتى في الزواج.
وقد ساعدت أمثال هذه المذاهب المتوسطة مساعدةً كبرى في تحول المثقفين الذين يتكلمون اليونانية تحولًا تدريجيًّا إلى الدين المسيحي، غير أن «العهد الجديد» يحذر المؤمنين الصادقين من أمثال هذه المذاهب: «يا تيموثاوس احفظ الوديعة معرِضًا عن الكلام الباطل الدنِس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم (الغنوسطية)، الذي إذ تظاهَر به قوم زاغوا من جهة الإيمان.
|