|
القاهرة 09 سبتمبر 2025 الساعة 10:28 ص

بقلم: هبة أحمد معوض
كيف يمكن للغة أن تُعبّر عن شعب كامل دون أن تُقصي أحدًا؟ كيف تتحول الكلمات من وسيلة تواصل إلى ميدان صراع؟ ولماذا تصبح اللغة، في بعض السياقات، أداة لإعادة إنتاج السلطة بدلًا من تحرير الإنسان؟
في مصر، تتخذ هذه الأسئلة أبعادًا أكثر حدة، حيث تتحرك اللغة بين قداسة النص القرآني وضرورات الحياة اليومية. فهل يمكن للغة أن تكون في آنٍ واحدٍ لغة الله ولغة الناس؟ وهل من الممكن أن تظل أداة توحيد وهي تُمارَس بانقسام طبقي وتعليمي صارخ؟
إن قضية اللغة ليست مجرد مسألة تعبير، بل معركة على المعنى: من يملك الحق في القول؟ بأي لسان؟ ولأي جمهور؟
في كتابها "لغة مقدسة وناس عاديون"، تسلك الكاتبة الإيرانية الأمريكية نيلوفر حائري دربًا نقديًا شائكًا، لا لتعلمنا قواعد النحو أو تحلل لنا بنية الجملة العربية، بل لتُفكك البُنى التي جعلت من اللغة العربية -وتحديدًا الفصحى- كيانًا يتجاوز وظيفته التواصلية ليصبح جهازًا ثقافيًا رمزيًا يُنتج الهيمنة ويُعيد تدويرها.
اللغة، في منظورها، ليست وعاء فارغًا يُملأ بالمعنى، بل مجال لتكوين المعنى وتحديد ملامحه. من يتحدث؟ بأي لغة؟ ولأي غرض؟ هذه ليست أسئلة بريئة، بل تعكس تراتبية اجتماعية، تاريخية، دينية. وما أن تُصبح -اللغة- ذات صلة بالدين، حتى يتحول السؤال من كيف نقول؟ إلى هل يُسمح لنا أن نقول؟
إن الفصحى، كما ترسمها نيلوفر، لا تعيش فقط في الكتب، بل أيضًا في مخيلة الأمة. فهي لسان الوحي القرآني، ولسان الخطاب السياسي الرسمي، ولسان الإعلام، ولسان القوانين، في آنٍ واحد، لكنها ليست لسان الناس.
وهنا تظهر المفارقة: كيف يمكن للغة أن تكون رمزًا للوحدة في حين لا يتحدث بها أحد؟ ما الذي يمنع الناس من استخدامها في يومياتهم؟ إنها ليست مجرد صعوبة، بل هو شعور غامض بالتقديس، بالرعب من تدنيس ما اعتُبر دومًا لسان السماء.
أما كل محاولة لتبسيطها أو تحديثها، تُقابل بمقاومة تُلبسها ثوب الخيانة الثقافية، أو التآمر على الهوية. فهي لغة لا يُراد لها أن تتطور، بل أن تُصان، حتى وإن كان ذلك على حساب نفاذها إلى الناس.
ومن ثم، لا تقف الكاتبة عند حدود اللغة بوصفها كائنًا دينيًا فقط، بل تتتبع أيضًا مساراتها في السياسة والحداثة والتصنيف الأكاديمي. لذا نجدها تعترض على مصطلح "الفصحى الحديثة" Modern Standard Arabic، وترى فيه تبسيطًا مُخلًا وسوء فهم يتجاهل عمق التوترات القائمة حول هذه اللغة.
فهذا التصنيف، كما تراه، وُلد في فضاءات جامعية غربية، يحمل معه إرثًا استشراقيًا يُفرغ اللغة من ثقلها الرمزي العربي. إنه اسمٌ جديد لجسد قديم، اسم يُنكر الألم، ويتغافل عن الجراح، ويُدرّس العربية كما لو كانت لغة بلا ذاكرة.
من ناحية أخرى، تتقصى نيلوفر حائري في العامية، ليست كمجرد لهجة، بل باعتبارها كيانًا لغويًا له من التعقيد ما يفوق التصورات السائدة.
العامية ليست اختزالًا للفصحى، بل سجلًا حيًا لنبض الشارع. هي لغة السوق والمقهى والمسرح الشعبي، لغة النكتة والشتيمة والحب والاحتجاج، وهي أداة للتعبير عن الذات الجماعية في لحظاتها العفوية.
ومع ذلك، لا تُعامل العامية كلغة، بل تُقصى، تُحقّر، تُوسم بأنها لغة الجهلاء والعامة، بينما هي في الواقع لغة الذين يعيشون، يحلمون، ويكتبون تاريخًا لا يُعترف به.
ليس هذا الانقسام اللغوي حديث النشأة. فمنذ القرن التاسع عشر، ومع بزوغ الحركات النهضوية، بدأ ما يمكن وصفه بالجدل الكبير حول اللغة.
منذ كانت محاولات التحديث اللغوي جزءًا من مشروع أوسع يسعى إلى اللحاق بالغرب وتحديث بنى المجتمع، لكن الطموح سرعان ما اصطدم بعقبات متجذرة: كيف يمكن تحديث لغة يُعتقد أنها لا تتغير؟ كيف يمكن تبسيطها دون أن يُفهم ذلك كعدوان على الدين؟
هكذا دخلت اللغة في فخ الثنائية: إما تقديس قاتل للفصحى، أو إنكار قاسٍ للعامية. أما التوازن، فظل مؤجلًا.
اللغة، في هذا السياق، ليست مجرد أداة، بل مرآة للذات. الفصحى ليست اللغة الأم لمعظم المتحدثين العربية، بل تُكتسب في الدراسة المدرسية دون التعامل بين التلامذة، وتُلقَّن في دروس الدين، وتُدرب في الإعلام، وتُكتب في الأوراق الرسمية. أما العامية، فهي لغة الطفولة، لغة القلب، لغة الحكاية.
ومع ذلك، تُمنح الفصحى منزلة اللغة الرفيعة، وترتبط بالنخب والمثقفين، فيما تُوسم العامية بالتدني والانحراف.
هذه الثنائية ليست بريئة، بل هي إعادة إنتاج لتراتبية طبقية وتعليمية. وهي، كما تقول الكاتبة، انعكاس لأزمة هوية لم تُحل.
لكن العالم يتغير. ومعه تتغير مكانة اللغة.
فاليوم، تعود العامية إلى الواجهة، ليست منطوقة فقط، بل مكتوبة ومغنّاة ومُمَسرحة. في أغاني الراب، في القصائد والأشعار الحديثة، في منشورات السوشيال ميديا، تصعد العامية كأداة تعبير لا تقل عن الفصحى قدرة على حمل المعنى.
وهي بذلك تُحدث زلزلة في التراتب اللغوي، وتُعيد تعريف الرقي اللغوي، وتمنح الشرعية لما كان يومًا مهمّشًا.
الكاتبة لم تقع في فخ الصراع. لم تنحاز للعامية على حساب الفصحى، ولا تدعو إلى إقصاء واحدة لصالح الأخرى.
بل تدعونا إلى تفكيك الثنائية نفسها.
تقول إن اللغة ليست كيانًا ساكنًا بل بنية حية، متغيرة، متعددة الطبقات. وإن احترام الفصحى لا يجب أن يعني تجميدها، كما أن الاعتراف بالعامية لا يعني تفكيك الهوية.
بل إن الاثنين، في الحقيقة، يكملان بعضهما البعض، وهما وجهان لتجربة لغوية واحدة متشعبة ومتداخلة.
اللغة ليست شأنًا عربيًا فقط. ففي كل مجتمع هناك صراعات مشابهة.
في الولايات المتحدة، تدور معارك حول شرعية Ebonics، حول استخدام الإسبانية، الناتج عن فرض الإنجليزية فقط.
إذًا، اللغة، ساحة للصراع على الهوية والانتماء. لا توجد لغة بريئة، لأن كل واحدة تُحمّل برموز وسلطات.
وهذا ما يعيدنا إلى جوهر الكتاب.. "اللغة ليست محايدة. ومن يقرر من يتكلم؟ هو بالضرورة صاحب سلطة".
قداسة الفصحى، كما تشير حائري، ليست فقط دينية. بل أيضًا مشروع قومي.
هي لغة العروبة، والخطابات الوحدوية، والهوية الجامعة.
ومن هنا، يُنظر إلى العامية بوصفها خطرًا، لا فقط على اللغة، بل على الأمة. تُربط بالانقسام، بالفوضى، بالتفتيت.
لكن هذا الربط نفسه، كما تشير الكاتبة، يُعطل إمكانيات تطوير اللغة، ويمنعنا من رؤية واقعنا كما هو.
ما يقترحه الكتاب ليس ثورة ضد الفصحى، بل اعتراف بالعامية كشريك.
كل لغة تُستخدم تستحق أن تُدرس، أن تُكتَب، أن تُحترم.
اللغة ليست طبقة اجتماعية، أو اختبارًا للانتماء القومي. بل وسيلة للتعبير، وأداة لبناء الذات.
وليس من المنطقي أن نُطالب الجميع بلغة واحدة في عالم متعدد السياقات، متعدد المقامات.
من ثم، نجد أن أكثر ما يكشفه الكتاب من مفارقات، أن المصريين يقدّسون لغة لا يتحدثون بها، ويعيشون بلغة يخجلون من كتابتها.
هذا الانفصام، بين الخطاب والممارسة، بين النص والحياة، هو جزء من أزمة عميقة في الوعي اللغوي العربي.
فاللغة لم تعُد وسيلة فقط، بل عبءًا رمزيًا يقيّد ولا يُحرر.
أهم ما يدعونا إليه الكتاب أن نُعيد اللغة إلى موضعها الطبيعي: أداة للحياة، لا تمثالًا للعبادة.
أن نُدرك أن النصوص لا تُنتج المجتمعات، بل المجتمعات هي من تُنتج النصوص.
وأن احترام اللغة لا يعني ربطها بالخوف أو العقاب، بل احتضانها كأداة للحب، والبوح، والمقاومة.
فاللغة التي لا تُقال، تموت.
أما اللغة التي تُحبّ، وتُؤدّى، وتُكتب، فتصير وطنًا.
لا في المعاجم، بل في أفواه الناس، في نكاتهم، في أغانيهم، في صمتهم أيضًا.
إن أغلب لغات العالم التي ارتبطت بالنصوص الدينية الكبرى، مثل اللاتينية والسنسكريتية، قد تراجعت أمام اللغات الحديثة وتوقفت عن كونها وسيلة تواصل يومي، إلا أن العربية الفصحى تظل استثناءً واضحًا، فهي لم تندثر، لكنها أيضًا لم تتطور بالشكل الذي يجعلها لغة الحياة اليومية. لقد ظلّت حية في الكتابة وفي الشعائر الدينية، لكنها غائبة عن الكلام اليومي، وهو ما يجعلها لغة معلّقة بين العالمين: الديني والدنيوي، بين الرسمي واليومي، بين ما يُكتب وما يُقال. لذا يرى الكتاب أن قدسية اللغة تلعب دورًا في هذا التعليق، فاللغة التي نزل بها الوحي، والتي يُفترض أنها لغة الله، تحوّلت إلى معيار أعلى لا يُمس، وبالتالي أصبحت كل محاولة لتبسيطها أو تحديثها مشروعًا محفوفًا بالرفض أو التخوين. ومع أن الإسلام لا يمكن تخيله دون العربية الفصحى، إلا أنه لا يوجد بحث واضح أو إجماع تاريخي حول متى ولماذا أصبح أداء الفروض الدينية مشروطًا بهذه اللغة تحديدًا، وهو سؤال مفتوح يعود إليه الكتاب ضمن محاولته لفهم هذا التداخل بين الدين واللغة والتاريخ.
يسلّط الكتاب الضوء أيضًا على أن اللغة لم تكن أبدًا قضية لغوية فقط، بل قضية سياسية أيضًا، تنخرط فيها الدول والمؤسسات والحركات الاجتماعية والمثقفون، حيث تتخذ اللغة دورًا رمزيًا في معارك الهوية والاستقلال والهيمنة الثقافية. ومن هنا، فإن اللغة المقدسة ليست فقط وسيلة للعبادة، بل أيضًا أداة في يد السلطة، تُستخدم لتشكيل الوعي وضبط الخطاب العام وتوجيه الثقافة.
فالكتاب يقدم رؤية واسعة ترى في اللغة العربية الفصحى قضية معاصرة بامتياز، تحاكي مأزق التوفيق بين التقاليد والحداثة، بين الأصل والتجديد، وتكشف كيف يمكن للغة أن تكون مرآة لتناقضات الأمة وأزماتها، بل ومعيارًا لدرجة اقترابها أو ابتعادها عن مشروع التحديث الحقيقي.
لم يكن الكتاب محاولة للفصل بين مستويات اللغة أو لإدانة أحدها على حساب الآخر، بل محاولة لفهم تلك الديناميكية الدقيقة التي يعيشها الإنسان حين يتحدث، حين يصلي، حين يكتب، أو حتى حين يصمت.
ما لفتني بقوة أن المؤلفة لم تضع نفسها في موضع الباحثة البعيدة عن الواقع المصري، بل بدت وكأنها تنتمي إلى ذلك القلق الذي تحلله. لم تكن تقف خارج التجربة، بل داخلها، تصغي إلى التوتر بين لغة يُفترض أنها لسان الله، ولغة تُستعمل في الشارع والمطبخ والمقهى. كتابها لا ينحاز للعامية المصرية على حساب الفصحى، ولا العكس، بل يتأمل كيف تتحرك الكلمات بين قدسية النص، وهموم اليومي، وتعبيرات العفوية، ومساحات الصمت.
أحد أكثر الأسئلة التي تركها الكتاب بداخلي، هو ذلك المتعلق بالإيمان واللغة: هل يحتاج الإنسان إلى إجادة الفصحى كي يخاطب ربه؟ هل القرب من الله مشروط ببلاغة نحوية وصرفية؟ أليست الرهبة الحقيقية في النفس، لا في سلامة الجملة؟ لقد أثارت نيلوفر هذا السؤال دون أن تدّعي امتلاك إجابة نهائية، لكنها جعلتني أرى كيف أن كثيرين يحملون شعورًا بالذنب أو النقص لأنهم لا يتقنون الفصحى، رغم صدق نيتهم، وإخلاص قلوبهم.
الكتاب أيضًا يدعونا إلى النظر في كيفيات تَشكل السلطة من خلال اللغة: من يحق له الكلام؟ من يُسمح له بالتأويل؟ من تُسمَع كلماته على أنها معرفة لا مجرد رأي؟ وبين سطور الكتاب، بدا لي أن اللغة ليست أداة محايدة، بل هي في كثير من الأحيان مرآة للهياكل الاجتماعية والتراتبية المعرفية والسياسية. حتى اللغة، التي قد نظنها مساحة للتعبير الحر، تحمل داخلها ملامح السيطرة والإقصاء والاعتراف.
لكني أجد في نهاية هذا العمل دعوة خفية – لكنها عميقة – للإنصات إلى أصوات المهمّشين لغويًا، إلى أولئك الذين يتحدثون العامية لا لأنهم يجهلون الفصحى، بل لأنهم ينتمون إلى واقع آخر، أكثر تعقيدًا، وأكثر صدقًا. دعوة للقبول بتعدد الأصوات، واختلاف المقامات، وتداخل المستويات، بدلًا من السعي الدائم لتوحيد النغمة.
يمكن القول إن هذا الكتاب لم يفتح أفقًا جديدًا للتفكير في اللغة فقط، بل جعل اللغة نفسها موضوعًا للقلق الوجودي. جعلني أسأل: بأي لغة أُفكّر؟ وأي لسان أستعمل حين أُحب أو أُصلي أو أحتج؟ وهل أملك لغتي، أم أنها التي تملكني؟ هذا ما يجعل الكتاب، في نظري، تجربة فكرية وإنسانية لا تُنسى.
|