|
القاهرة 02 سبتمبر 2025 الساعة 04:13 م

بقلم: كريم عبد السلام
أحيانا ما يحلو لبعض النقاد أن يصوروا الشاعر بألف ولام التعريف، على أنه كائن خارق قدماه على الأرض ورأسه بين السحاب، ينظر بعينيه الكبيرتين إلى الماضى والحاضر مستحضرا المستقبل على غرار زرقاء اليمامة، وأحيانا على العكس من هؤلاء النقاد، يصور البعض -ولعلهم من الشعراء أنفسهم- الشاعر بألف ولام التعريف، على أنه منبّت، مقطوع، كائن طاف، أقرب إلى الصعاليك العرب، يحق له ما لا يحق لغيره، بدعوى أن هذه الطبيعة البوهيمية للشاعر هى ما يمكّنه من استحضار التدفق الشعرى والصور الجميلة والقصائد الغنائية التى يقدم فيها عذاباته نيابة عن الكون كله، وبعيدا عن النموذجين السابقين، هناك اتجاه ثالث لتعيين صورة ومسار الشاعر وسط جماعته الإنسانية، بأنه العارف بالتفاصيل الصغيرة، مالك الذات ومختبرها ومتقصيها والباحث عن أحوالها ومعاناتها يوما بيوم ولحظة بلحظة، وإضافة للنماذج الثلاثة الماضية هناك صورة نادرة للشاعر اعتمدها قلة من الشعراء واعتبروا أن الشاعر الحقيقي بألف ولام التعريف هو الذى يستوفى أبعادها وتفاصيلها، ألا وهى صورة المفكر المستشرف الباحث فى مصائر البشر وأحلام الإنسانية والعالم بالفلسفات وعلوم الأوائل والمتتبع للمناطقة مثلما يتتبع أصحاب الباطن والصوفية والمتكلمة
وخلال العقود الثمانية الماضية، مر الشعر العربي بتحولات عرف فيها هذه الأنماط من الشعراء أو لنقل هذه الأنماط المعتمدة من النقاد والشعراء، فى مراحل مختلفة، عن صورة الشاعر ودوره ورسالته وطبيعة إنتاجه الشعرى وهدفه فى الحياة وعلاقته بالمجتمع الذى يعيش فيه وكذا علاقته بالجماعة الإنسانية بعامة، واللافت فى كل هذه التصورات، التى لا نختلف معها إذا اعتمدها شاعر بعينه، أنها تميل عادة إلى التنميط، وحصر صورة الشاعر فى مواصفات بعينها، وهذا الأمر ضد المنطق والروح والوجود الإنسانى بعامة ناهيك أنه ضد الفطرة الشعرية، ويؤدى عادة إلى إنتاج مناخ ثقافى زائف، حيث تروج مقولات نقدية مشاع وتصورات متواترة عن إنتاج القصيدة بل وأحيانا ما يروج معجم معين من الدوال والمفاتيح اللفظية، يستخدمها مجموعة من الشعراء فى لحظة بعينها وكأننا بصدد كتابة مشتركة عكس منطق الشعر الذى هو فردى بامتياز مثل الموت.
وحتى هذه اللحظة التى نكتب فيها الكلمات، لم تتوقف الطريقة التى يتم بها إنتاج الأنماط المتصورة عن الشاعر والقصيدة الرائجة، ولعل سيادة نمط قصيدة النثر المعتمدة على اللغة التداولية وعلى التفاصيل والانطباعات الذاتية عن الذات الشاعرة فى حركتها اليومية، أو ما يُعرف "بالقصيدة الاعترافية"، يرشدنا عن قرب، إلى موضوع سيادة نمط الكتابة المشتركة فى لحظة أو مرحلة معينة، وما يحدثه فى تيار الإنتاج الشعرى والأدبى بعامة، كما يمكن من خلاله أن نقارب وجود الشاعر فى المجتمع والجماعة الإنسانية عامة، أو كيف يضبط الشاعر الحديث إحداثيات رؤيته وحركته وهو إنسان، يشقى ويعمل ويجوع ويقاوم الحشرات البشرية ويبحث عن فرصة لنشر أعماله وطرحها للقراءة، وفى الوقت نفسه يملك هذا الوعى التراجيدى العابر للمجتمعات والأجيال، هو حامل جينوم الحالم حارس المعنى والمقاوم الرافض لسحق الإنسانية بطرح السؤال: لماذا؟ فى توقيته ومكانه
الشاعر ليس فردا فى فراغ، ولكنه نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضى والحاضر، تورط دائم واشتباك متواصل ومعاناة سيزيفية لا تنتهى، وهو أيضا نظر ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها، وما يطرأ عليها من تغيرات، فهو يرى ما يحرك الإنسان تجاه مصيره، وهو فى كل الأحيان منحاز إلى الإنسان فى طموحه وأحلامه، وفى معاناته وأشواقه ولحظات عجزه أو تحققه، عند عثوره على الحب أو اصطدامه بالموت. الشعر هنا لا يمكن اختزاله فى القصيدة الاعترافية أو الحديث المغلق عن الذات أو تصور العالم فى الانفعال غير الخاضع لقيم جمالية، الشعر بالضروة فى قلب اللحظات القصوى للإنسان، عندما يشعر بامتلاك العالم أو بفقدان العالم، وهى اللحظات التى يكون فيها على استعداد للاستشهاد أو القتل ، للتضحية أو الثورة، وهى اللحظات التى يرى فيها جوهر العالم فى شموليته.
إن أخطر أشكال الوعي الزائف على الشعر والشعراء، سيادة النمط العام عن الشاعر وحركته ووعيه وسيادة النمط الجمالي عن القصيدة، ولعل المحك الأساسى للشعراء الأصلاء يكون فى تحدى النمط والخروج عليه واجتراح تصورهم الفردي عن القصيدة وجمالياتها، وبذلك يمهدون بدايات الطريق الذى يسيرون فيه نحو مشروع جمالى يخصهم ونحو فردية خلاقة هى الباقية واللافتة وسط ركام الأنماط والكتابات المشتركة المتشابهة.
كما أن من مثالب سيادة التفكير من خلال الأنماط والتنميط، نشوء الميليشيات الأدبية التى ترفض الاختلاف وتضيق بالرحابة فى التوجهات الجمالية ولا تستطيع أن تقرأ المختلفين جماليًا، وبالتالى نشوء المعارك الزائفة المؤسسة على وعى زائف وتصورات نمطية ضد منطق الإبداع من حيث هو اختيار جمالى محكوم بالنزعة الفردية والتوجهات الخاصة لكل شاعر.
وللحديث بقية..
|