|
القاهرة 26 اغسطس 2025 الساعة 09:46 ص

بقلم: أمل زيادة
سكان كوكبنا الأعزاء.. ها نحن نلتقي من جديد...
هل سبق وشردتَ وسافرتَ في ذكرى لدروب الذكريات بسبب رائحة عطر ما..؟!
هذا ما حدث معي خاصة في تغيير الفصول ورائحة هواء الفجر والمغرب.. نسمة الهواء اللطيفة التي تميز آخر شهر أغسطس وبداية شهر سبتمبر تذكّرنا برائحة المدارس واستعداد الأسر للموسم الدراسي وما به من عادات شراء ملابس المدارس والحقائب والسؤال عن الكتب الخارجية..
بسؤال المحيطين سألتهم ما الرائحة المفضّلة لديكم، كانت الإجابات متفاوتة بين رائحة المطر والأطفال الصغيرة والعطور...
بصفة خاصة لدي ذكريات خاصة مع العطور... هناك عطرٌ قديم ما زلت أذكر شكل الزجاجة التي اشتريتًها آنذاك, لم تكن صناعة العطور بهذا الازدهار حين كنت طفلة في الصف الثالث الابتدائي..
حيث لفت نظري زجاجة عطر صغيرة الحجم في مكتبة أمام مدرستنا، خطفني شكل الزجاجة ولون العطر العتيق الذي أضفى رونق على شكلها الرائع.
سألت عن سعرها وقررت شراءها، وبدأت رحلة تجميع ثمنها، قمت بادخار مصروفي اليومي.
أمرُّ من أمام المكتبة يوميًّا، لأطمئن أنها لا تزال موجودة ولم يسبقني أحدهم واشتراها..
وحدثت الانفراجة الكبرى وجاء العيد وحصلت على عيديات ساعدتني على تقليص رحلة التوفير وتمكنت من الوصول لثمنها سريعًا.. وركضت لأشتريها وأهديتها لأمي.
سعدتْ أمي كثيرًا بها، وضعتها في حقيبة يدها وظلت تأخذها معها أينما ذهبت بل إنها فرضت قيودًا عليها، مشددة على ألا يقترب منها أحد.. ربما لأنها أول هدية من هذا النوع تتلقاها آنذاك، وربما لأنها قيمة من وجهة نظرها وربما لاعتزازها بها مثلي... هكذا خيل إليّ كطفلة.
لا أخفي عنكم كلما ذهبت لمكان أبحث عن زجاجة لها الشكل نفسه.. ولم أجد. أما العطر لا زال متداولا رغم ندرته وصعوبة الوصول إليه إلا أنني أحرص على شرائه وسؤال البائع عن المصنع هل لا زال موجودًا؟ وهل هناك إقبال على منتجاته؟ يطمئني البائع أن هناك من هم مثلي ممن يحرصون على اقتناء الذكرى وليس العطر نفسه.
أحرص على اقتنائه فله معي ذكريات عزيزة أبرزها رحلة كفاحي لاقتنائي له وترقب كل يوم ودعوات لا تنقطع ألا تباع ويقتنيها غيري خاصة أنه بدا لي أنها الوحيدة الموجودة بالمكتبة!
أرى أن العطر ليس مجرد رائحةٍ زكية تُضاف إلى الجسد، بل هو لغة صامتة، حديثٌ خفيّ بين الأرواح، وإشارة دقيقة تكشف مكنون النفس قبل أن تنطق الشفاه، إنّه نسمة تُداعب القلب، ونافذة تُفتح على الذكريات، ورسالة غير مكتوبة تحمل حضور صاحبها إلى القلوب قبل أن يصل بخطاه.
في لحظة واحدة، قد يقلب العطر موازين الروح؛ فيهدئ اضطرابها، ويُسكّن قلقها، أو يوقظ فيها طاقة الحياة والفرح.
روائح الياسمين والورد مثلاً تهمس للروح بالسكينة، بينما تنبض الحمضيات والنعناع بنداء اليقظة والانطلاق، والرائحة المحببة قادرة على أن تردّ الإنسان إلى أجمل ذكرياته، فتمنحه ابتسامة غير مقصودة، وطمأنينة لا تفسير لها إلا أن الروح وجدت ما يُداعبها، هكذا يملك العطر سرّ الدخول إلى أعماق النفس دون استئذان.
.أثر العطر لا يتوقف عند حدود النفس، بل يمتد إلى الدنيا وما فيها من علاقات. فالرائحة الطيبة مرآةٌ للسيرة الحسنة؛ هي بطاقة أولى تُعرّف الناس بصاحبها، وتترك في قلوبهم أثرًا لا يُمحى، ومن يُصاحب الطيب، يسير بين الناس بقبول وهيبة، كأنما عبيره يسبق خطاه ويظل حاضرًا حتى بعد غيابه.
وقد شبّه القدماء الذكر الحسن بالعطر الفوّاح؛ فكما أن الرائحة الزكية تعلَق بالثياب والهواء، فإن السيرة العطرة تظل تلازم صاحبها أينما ذُكر اسمه.
ومن هنا كان اهتمام الأنبياء والعارفين بالطيب جزءًا من اكتمال الصورة الإنسانية، إذ يجتمع فيه جمال الروح مع نقاء الظاهر.
لأنه يربط بين الداخل والخارج؛ بين ما يشعر به الإنسان في أعماقه وما يتركه في نفوس الآخرين، فإذا طاب عبيره، طابت سلوكياته، وإذا صفا قلبه، انعكس صفاؤه في أثر لا يُنسى.
ومن هنا صار العطر رمزًا للسلوك القويم، وللسيرة التي تبقى عالقة في الأذهان حتى بعد الرحيل، كما تبقى رائحة الزهور في المكان بعدما تُقطف.
العطر إذن ليس كماليات تُقتنى، بل هو جسرٌ بين النفس والدنيا، يهب الإنسان راحةً في داخله، ويهبه سيرةً طيبةً بين الناس.
وإن كان الإنسان يُذكَر بأفعاله وكلماته، فإن عطره أيضًا جزءٌ من حكايته في الحياة، وصدىً باقٍ لسيرته بعد الممات.
حدثونا عن ذكرياتكم مع العطور.. هل سبق وتوقفت أمام رائحة عطر وسقطت أسير الذكرى؟!
سكان كوكبنا الأعزاء..
حدثونا عن أفضل الروائح بالنسبة لكم؟
وما علاقة العطر بالذكرى من وجهة نظركم...!
لذا كونوا بالقرب وشاركونا الرحلة.. رحلة الحب والذكرى..
|