|
القاهرة 26 اغسطس 2025 الساعة 09:38 ص

بقلم: كريم عبد السلام
بعد صدور ديوانى " بالادات .. أيها القارئُ السعيد .. ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب" ، سألنى صديق صحفى : ماذا تعنى بـ "بالادات" ؟ ولماذا صنفت الديوان تحت هذا العنوان ؟ وإذا كنت – كما صرحت فى أكثر من حوار- تقصد الإمساك فى تجربتك الجديدة بنفس ملحمى أو درامى ، فقصائدك عبر ثلاثين عاما تقريبا تحمل وتنحاز إلى الدرامية والتفاعل مع المحيط الاجتماعى وامتداداته التاريخية، إذن ما الجديد فى بالادات؟
بالطبع رددت على صديقنا الصحفى بتفسير لما سعيت إليه فى ديوانى الأخير ، لكنى وجدت أن النقاش الثنائى الشفاهى لا يجب أن يظل مجرد نقاش ثنائي، وأنه ربما يكون مهما أن أسجل كلماتى فى مقال موثق، متاح لمن يهتم..
خلال السنوات الأخيرة كنت مشغولا بشكل شخصى بمجموعة تساؤلات جمالية حول قصيدة النثر، بعد انتشار نمط القصيدة الاعترافية وابتذالها فى مجرد البوح الهيستيرى دون اعتبار لمفهوم النوع الشعرى وجمالياته عبر العصور.
من هذه التساؤلات: ما مدى رحابة الأرض التى يمكن أن تصل إليها القصيدة دون أن تفقد ماهيتها أوتندغم فى فنون إبداعية أخرى؟
ما علاقة قصيدة النثر بالإيقاع ؟ ونفتح هنا قوسين لنؤكد أن الإيقاع يشمل انتظام الحياة والكون والفنون جميعها، وبالتالى فإن المكتشف من الإيقاع الشعرى قليل ومحصور فى إيقاعات الفراهيدى وتلميذه الأخفش وإيقاعات الموشحات الأندلسية وإيقاعات القصيدة التفعيلية ، لكن القوس يمكن أن يمتد لإيقاعات أكثر معاصرة مثل إيقاع الفقرة أو الكتلة الشعرية وإيقاع المشهد والصور الشعرية وإيقاع الكولاج وإيقاع الفوضى أو الزحام والإيقاع المتشابك البوليفونى الذى يميز حياتنا المعاصرة مثل تداخل إيقاعات الآلات الموسيقية المتجاورة
ومن هذه الأسئلة أيضا : ما حدود قصيدة النثر بين الخيال الشعرى الخالص والسرد النثرى، وما إذا كانت هذا الحدود موجودة وقائمة أصلاً، أو مرهونة بخيال كل شاعر فرد وقدرته على المضى وراء تصوراته للنوع الشعرى؟
لا أزعم أننى فى معالجتى للأسئلة السابقة ، قد وصلت إلى إجابات جمالية يمكن أن أطرحها على أحد غيرى ، ولكنى وصلت إلى اقتراح جمالى يخصنى ، يمكن أن أعتمده مرحليا – الآن قبل أن أنقلب عليه- كشكل للتعبير عن هواجسى الشعرية ، وهذا الاقتراح هو شكل "البالاد" المبدئى قبل أن أسحبه إلى عالمى وشطحاتى وخيالاتى وطريقتى فى القول
ما الذى دفعنى إلى هذا الشكل " الفورم" تحديدا؟
البالاد أو الـ Ballad، هو الشكل الذى يمكن أن أختبر من خلاله اقتراحاتى الجمالية أو إجاباتى الشعرية عن سؤال : "ما مدى رحابة الأرض التى يمكن أن تصل إليها القصيدة دون أن تفقد ماهيتها أوتندغم فى فنون إبداعية أخرى" ، لأن البالاد منطقة مفتوحة بين القصيدة والدراما والسرد والحكاية والموسيقى وحتى الغنائية الشعرية فى بعض الأحيان، كما أنها بالضرورة تستمد جزءا كبيرا من أصالتها، من الوعى الشعبى الإنسانى المتراكم عبر التاريخ، فهى تمنحنى الحلم بتأسيس ملحمة شعرية قصيرة أو صناعة أسطورتى الشعرية التى يمكن ترديدها باستمرار
البالاد منحنى الحلول للخروج من إطار القصيدة الاعترافية السائدة وصناعة مناخ كامل أو عالم من الإشارات والتعبيرات وبناء دراميا يمزج بين السرد المغلق على نفسه والسطر الشعرى المصكوك والمحمل بالصور، والحوار الدرامى القائم على الصراع، وذلك دون فقدان الإيقاع الشامل الذى يتبدى أحيانا فى أسطر متناغمة متساوية فى مقاطع، أو كتل سردية ملتفة تصنع أركان المبنى الشعرى المحمول على أجنحة الخيال
هنا التحدى الجمالى على مستويات متعددة ، لأن البالاد لا بد أن يحيل إلى بنية الحكاية وإلى الإيقاعات وإلى الموسيقى بمعناها الشامل وهو أكبر من فكرة الكتابة عبر النوعية التى أسس لها الراحل إدوار الخراط ، والتى تقوم على الكتابة البينية بين الشعر والسرد أو كتابة القصة القصيدة من خلال الإفراط فى استخدام المجاز والإصاتة اللغوية.
كما أن البالاد أكبر من قصيدة الأقنعة التى روج لها الآباء المؤسسون للقصيدة الحرة مثل صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ، لا، البالاد من وجهة نظرى حكاية شعرية كاملة فيها من منطق الحكى والسرد الكثير وفيها من الشعر قدرته على الإدهاش وصناعة الإيقاع الذى يخص القصيدة ، وفيها من الدراما الصراع وفيها من الوعى الشعبى تلك القدرة السحرية للخيال وهى قدرة لا يمكن محاكاتها ، لا بدّ أن تكون أصلية وقادرة على خطف القارئ أو المستمع ووضعه فى مجالها التأثيرى.. وللحديث بقية..
|