|
القاهرة 26 اغسطس 2025 الساعة 09:31 ص

عاطف محمد عبد المجيد
خلال زيارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر للمملكة المغربية حرص أحد المغاربة على مصافحة الزعيم وهمس في أذنه قائلًا سلِّم لي على إسماعيل ياسين. بهذه الكلمات يفتتح محمود دوير كتابه "قوة مصر الناعمة.. البدايات والمكونات" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، ويستهله بمقولة نابليون بونابرت "الخيال يحكم العالم" قائلًا في مدخله إنه كلما اقترب من مكونات القوى الناعمة وجد نفسه في بحر من الرمال، تغوص أقدامه خطوة تلو أخرى، ويكاد لا يستطيع التوقف عند حد معين، غير أن رغبة مُلحة تدفعه إلى الاكتفاء الآن بهذا القدر دون إطالة ترهق القارئ، أو اختصار مخل بالموضوع محل البحث/الكتاب.
دوير يرى أن مصر مرت بمراحل عديدة في مسار تكوين قواها الناعمة، من بداية النشأة والتكوين منذ بدايات القرن العشرين إلى صياغة مشروع مصري، ثم مرحلة التوهج والقوة، إلى مرحلة التراجع والتردي والضعف، كل تلك المراحل كانت السياسة ودرجة تأثيرها وامتلاك مشروع وطني شامل، أو افتقادنا لهذا المشروع ذلك، حاكمًا في مراحل القوة والضعف.
هنا يبحث دوير في الشخصيات المُلهمة بين من صنعوا لمصر قنديلها لتضيء العالم، وبين من أسهم في صياغة أفكار كالقنابل تنفجر في وجوهنا وتشوه نضارتنا. هذه المحاولة يراها الكاتب ليست فقط للرصد، بل أيضًا للتحليل والخروج بنتائج قد يتفق معها البعض ويختلف الآخر.
كما يؤكد أن هناك حقائق تاريخية لم ولن تكون محلًا لأي خلاف، ذاكرًا منها ما يمكن تسميته بـ "أزمة الليبرالية" المصرية في علاقتها بالقوى الناعمة بشكل عام، وبأفكار التجديد والتجريب في الفكر والفن بشكل خاص، وهناك، يقول الكاتب، شبه إجماع بين النخبة المصرية على أن مرحلة "المشروع الوطني المصري" الذي شهده حكم جمال عبد الناصر من 1954 إلى 1970 كان يمثل ذروة التجلي لنفوذ مصر وقدرتها على الاستفادة من قواها الناعمة.
وما بين التأسيس في بدايات القرن العشرين، ومرحلة القوة في منتصفه، يقول الكاتب، شهدت نهايات هذا القرن خمولًا وانحسارًا في مشروعنا الوطني، ومن ثم في نفوذنا المعنوي وتأثير قوانا غير التقليدية. هنا يعتقد دوير أنه تسلح في تشخيص وتحليل قوة مصر الناعمة بالتاريخ، وتحصن به، وحافظ على بوصلة ثابتة في تحديد الاتجاهات لمعرفة متى كان دور قوى مصر الناعمة ومتى خفتت أنوار تلك القوى، فمصر، يذكر الكاتب، التي أهدت العربية أول جائزة نوبل في الأدب لنجيب محفوظ، تعاني من سوء في أوضاع التعليم وارتفاع معدلات الأمية في عصر الحداثة وما بعدها، وقد انهارت جامعاتها تقريبًا ولا نجد لها وجودًا في ترتيب جامعات العالم وهي التي قدمت أول جائزة نوبل في العلوم للراحل أحمد زويل.
ما يراه دوير أن ما بين حسابات الساسة من جهة، وضمائر ومثالية المبدعين والمفكرين من جهة أخرى تبدو العلاقة شائكة ومعقدة، فهما يلتقيان إلا قليلًا، وإذا اقتربا يتحقق الإنجاز، كذلك يرصد تمثيل مواقف مصر التاريخية تجاه قضايا الوطن العربي وأفريقيا أحد أهم دعائم قوتها وتأثيرها الدولي، وكان الموقف الرسمي الثابت من القضية الفلسطينية باعتبارها الأهم في ملف الصراع العربي الإسرائيلي بكل تفاصيله وتجلياته، ومما يثبته أيضًا أن مصر التي عرفت مفهوم القوى الناعمة منذ قرن دون أن تسميه، وعرفت كيف تستخدم قواها الناعمة وكنوزها الفكرية والفنية، وساهمت في صياغة عقل ووجدان العالم العربي، بل امتد التأثير إلى أبعد من ذلك جغرافيًّا لتعبر الثقافة المصرية إلى أحراش أفريقيا وأطراف آسيا.وتمتلك مصر، على حد قول الكاتب، مقومات عديدة للتأثير، من بينها الموقع الجغرافي المتميز الذي سمح بالاتصال اليسير بالعالم، إضافة إلى اللغة العربية ومكانتها بين الدول العربية ذاتها، ومؤكد أن تاريخ مصر وحضارتها القديمة جعلاها مركزًا لاهتمام العالم، وساهمت في امتلاكها قوة ناعمة نافذة وقادرة.هنا أيضًا لا يعتبر دوير أن قوة مصر الناعمة بمعزل عن قدرتها الذاتية في الدفاع عن نفسها واستقلال قرارها، وسيادتها الوطنية، والحصول على حقوقها وحمايتها، لذلك فإن أبرز مراحل قوتها الناعمة كانت تلك التي تتميز بالعنفوان والقوة والتمسك بحقوقها، وبامتلاك قدر من إرادتها وبتبني مشروع وطني.
ما يقره الكاتب هنا أنه يسعى إلى رصد مراحل تكوين مقومات وإمكانات القوى الناعمة المصرية، التي يعتقد أنها تكونت عبر عقود ثلاث في بدايات القرن العشرين، وكانت محصلة جهد حقيقي لاستعادة الهوية المصرية التي توارت قليلًا أمام النفوذ العثماني منذ القرن التاسع عشر، ورغم محاولات ونضالات استعادة مصر الدائمة، إلا أن الفنون والآداب قد عانت كثيرًا من محاولات للهيمنة والتبعية خاصة الموسيقى التي وقعت أسيرة في البداية للنموذج العثماني، إلى أن ظهر سيد درويش وداود حسني.
دوير الذي يورد هنا وصف جوزيف ناي للقوى الناعمة بأنها هي القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلًا من الإرغام أو دفع الأموال، يقول إنه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين حاولت مصر استعادة نفوذها التاريخي وتأثيرها خارج حدودها، لكن دومًا كان الآخرون يبحثون عن موقع لهم، ويطمعون في دور مصر ومكانتها، ويبقى التأثير والدور السياسي عاملا شديد الأهمية في القدرة على استثمار مقومات القوة الناعمة.
أيضا يذكر الكاتب أن البدايات عادة ما تحمل صعوبات، والتغيير في حد ذاته محفوف بالمخاطر والعقبات، إلا أن جيلًا رائدًا تحمَّل المسئولية وصنع الفارق ونقل الوعي المصري خلال العقود الأولى من القرن العشرين من أحضان العثمانيين إلى آفاق الحداثة والمصرية في آن واحد على مستويات كثيرة.هنا يتحدث دوير عن المسرح "أبو الفنون" وعن دور سيد درويش في الموسيقى وعن حمل توفيق الحكيم لرؤى جديدة لصناعة ثورة في البنية الذهنية بعد عودته من فرنسا، كما يكتب عن السينما الساحرة المبهجة والتي عُرفت بالشاشة الذهبية أو الفن السابع، وعن جدل الهوية ومعاركها، وعن الشيخ المُلحن والشيخ المُسلح، قاصدًا سيد درويش وحسن البنا، وعن اهتمام جمال عبد الناصر الدائم بالسينما.أيضًا يذكر هنا الكاتب أنه رغم ما شهدته فترة الخمسينيات والستينيات من ازدهار لدرو الثقافة والقوى الناعمة واهتمام بالفن والأدب، إلا أنه شهد صدامات حادة بين نظام الحكم الناصري وبين المثقفين، خاصة المحسوبين على اليسار.
يؤكده أيضًا أن مواقف مصر الدبلوماسية وانحيازاتها خلال عقود سابقة لحقوق الشعوب في الاستقلال والتحرر وسيادة موقعها الوطني، كان أحد ركائز تكوين صورة مصر الذهنية لدى شعوب العالم، خاصة دول العالم العربي وبلاد العالم الثالث، إضافة إلى اعتبار الثقافة والفنون والآداب أحد مصادر قوة مصر الناعمة. في "قوة مصر الناعمة" يرى دوير أننا أمام تحدٍ أكثر خطورة وأهمية، وهو ما يمكن تسميته بنا في السطحية والوعي الزائف الذي يحاصرنا، ويسيطر على أجيال من الشباب لا تعرف سواه، هذا التحدي، يرى الكاتب، لا يقل خطورة عن تحدي الظلامية والعداء للإبداع وللحياة، وكلاهما يحتاج مواجهة حاسمة وسريعة.
ثم هذه المواجهة من خلال دعم مشروع تنويري "فني – ثقافي" يعيد لمصر وجهها المضيء، والحفاظ على التراث الفني والأدبي والفكري وإعادة إنتاجه من خلال طبعات حديثة وفي متناول الشباب.هذه بعض الخطوات التي نحاول من خلالها، يقول دوير، استثارة حوار جاد حول أولويات مسيرة استعادة قوانا الناعمة والتي صرنا نتحدث عنها كثيرًا، ولا نفعل لإنقاذها ما يجب علينا تجاهها.
|